في 1988، جرى إنتاج مسلسل مصري بعنوان "الراية البيضا" من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمّد فاضل وبطولة جميل راتب وسناء جميل. عملٌ كان الهدف منه خلق وعي بقضية المباني الأثرية في الإسكندرية، حيث إن موجة "الانفتاح" التي بدأت قبل أكثر من عشر سنوات، كانت قد أفرزت طبقة نهِمة للاستثمار في العقارات، فبدأت في شراء فيلات القرن التاسع عشر المنتشرة على الشريط الساحلي للإسكندرية، ومن ثمّ هدمها وتحويلها إلى عمارات وأبراج.
أشّر نجاح المسلسل جماهيرياً على دخول هذه القضية تحت الأضواء الكاشفة للوعي الجمعي، وقد تمأسست في الأثناء محاولات حماية البيوت التراثية، فظهرت جمعيات وبات الموضوع حاضراً في وسائل الإعلام. كلّ ذلك كان يوحي بأن الاعتداء على التراث المعماري في مصر قد ولّى زمنه، غير أنه، وبعد ثلاثين عاماً، سنكتشف بأن الطريق لا تزال وعرة لحماية هذا التراث، وأن القرارات الفوقية، مثلها كمثل الجرّافات، لا شيء يمكنه أن يردعها. ذلك ما تأكّد مع هدم قصر أندراوس في مدينة الأقصر منذ أيام.
عمليات التخريب كانت ذريعة رسمية لهدم القصر بدل ترميمه
أثار الإعلان عن قرار الهدم انتقادات واحتجاجات كثيرة، ولكنها ذهبت سدى، فمعظمها لم يتخطّ منصات التواصل الاجتماعي. ورغم أن بعض الجمعيات المدنية وبعض المتخصّصين حاولوا إثناء السلطة عن هدم القصر، من خلال الحجج القانونية والأثرية، إلا أن جهودهم باءت بالفشل. فقد بدأ كل شيء بصور جرى تداولها في مواقع التواصل لمعدّات هدم، وفيما كان المحتجّون يكتبون التدوينات تلو الأخرى، كانت آلة الهدم تتقدّم بدم بارد.
تبدو التبريرات الرسمية لمثل هذه "الجريمة المعمارية" خفيفة، فمثلاً أشار الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في مصر، مصطفى وزيري، في حديث إلى وسائل إعلام محلية، إلى أن سبب إزالة وهدم قصر أندراوس التاريخي هو تعرّضه للتصدّع، بحيث أصبح آيلاً للسقوط بعد محاولة بعض لصوص الآثار الحفر والتنقيب أسفل القصر. في حين أن تقارير بعض الأثريين قد أشارت إلى إمكانية ترميم القصر من دون هدمه، كما أن الاستعانة بخبراء يمكن أن يفضي للوصول إلى الموقع الفرعوني المحتمل تحت القصر من دون تدمير هذا الأخير. لكن نزعة اللامبالاة التي نجدها لدى المسؤولين تجعل مثل هذه القرارات الرسمية وكأنها تنفيذٌ لما عجز عن إنجازه لصوص الآثار، هذا إذا افترضنا أن هذه الرواية صحيحة ولم يكن تخريب اللصوص جزءاً من مخطّط أوسع.
لكن كيف يغيب عن أذهان هؤلاء أن القصر في حدّ ذاته ينتمي إلى دائرة الآثار؟ يعود بناء قصر أندراوس إلى عام 1897، وقد أنشأه توفيق باشا أندراوس ضمن نمط السرايات الكبرى في القاهرة والإسكندرية، والتي تمزج بين عناصر المعمار الأوروبي، الإيطالي منه خصوصاً، والعربي. وكان القصر يضم مجموعة كبيرة من القطع الأثرية الفرعونية التي نُقلت لاحقاً إلى المخازن الأثرية في الأقصر. علماً أن القصر مجاور لأهم الآثار الفرعونية في المدينة المصرية.
فيما كان المحتجّون يكتبون التدوينات كانت آلة الهدم تتقدّم
صحيح أنه يمكن القول بأن قصر أندراوس قد بُني في منطقة أثرية، ولكنه بات جزءاً من المكان، والتاريخ يحتمل طبقات كثيرة تتراكم فوق بعضها، خصوصاً وأن المعْلَم شاهد على مرحلة تاريخية مهمة أيضاً، وهي فترة نضال الحركة الوطنية المصرية ضد الاستعمار البريطاني. حيث اتخذ سعد زغلول من القصر مقرّاً له ضمن جولاته التعبوية في أقاليم مصر زمن ثورة 1919 وما بعدها. كما ظلّ القصر مكاناً تحضر فيه بانتظام الشخصيات السياسية والفنية كلما جاءت إلى الأقصر بدعوة من توفيق باشا أندراوس الذي كان نائب مجلس الأمة عن الأقصر لدورات متتالية.
يُذكر أن بوادر قرارات هدم القصر بدأت في 2009. وقتها تشكّلت لجنة أجمع أعضاؤها ــ من معماريين وأثريين ــ بأنه لا معنى لهدم القصر، إذ يمكن ترميمه. نجا القصر من محاولة الاغتيال الأولى، ولكنْ إلى حين. ومن الجدير الإشارة إلى نقطة مهمة ربما ساهمت في تمديد عمر القصر، وهي أنه كان في 2009 مسكوناً، فقد كانت تقيم فيه ابنتا توفيق باشا، صوفي ولودي، وكلاهما في العقد الثامن من العمر.
في 2013، عُثر على جُثّتي السيّدتين مقتولتين داخل القصر، وبقيت الجريمة غامضة ثم لفّها النسيان بالتدريج، ولم تعد إلى سطح الذاكرة الجماعية إلّا مع عودة الحديث عن قصر أندراوس مع أخبار بوجود عمليات تخريب أقدم عليها لصوص آثار في العام الماضي، ثم هذه الأيام وقد أصبحت عمليات التخريب تلك ذريعة رسمية لهدم القصر بدل ترميمه!
هل جميع هذه الأحداث غير مترابطة؟ سؤال يتبادر للذهن. ومرة أخرى، قد لا يكون كلّ هذا اللفّ والدوران إلّا بغاية طمس المكان واستثماره مادياً، حيث إن أرضاً بتلك المساحة وفي ذلك الموقع قبالة النيل والمعابد الفرعونية الكبرى لا شكّ أنها تُسيل لعاب المستثمرين السياحيين. ربما تبدو هذه التأويلات نابعة من خيال قرّاء الروايات البوليسية، لكن فلنتذكّر أن عدداً كبيراً من حرائق الغابات في العالم قد جرى بتدبير منتفعين يعملون على تحويل تلك الأراضي إلى عمارات ومنتجعات.