قصور حماة ونواعيرها.. رحلة أوليا جلبي إلى وسط سورية

12 فبراير 2022
نواعير حماة في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

كتبنا في المقالة السابقة عن الجزء الأول من رحلة الرحالة العثماني الشهير أوليا جلبي، محمد ظلي أفندي، والذي تناول فيه بعض مناطق كيليكية ولواء إسكندرون التي كانت تتبع لولاية حلب في ذلك الوقت، وفي هذه المقالة نتناول الجزء الثاني من الرحلة، وهو الجزء المخصص لمدينتي حمص وحماة، وسط سورية وهما كانتا تتبعان في ذلك الوقت لولاية طرابلس الشام، إضافة إلى محطات الطريق إلى دمشق، مثل خان القطيفة في منطقة القلمون، وحرستا في الغوطة الشرقية.

وقد انطوى هذا الجزء من الرحلة على معلومات غاية في الأهمية، تتعلق بالأوضاع السكانية والإدارية، والنسيج العمراني لحماة وحمص قبل التغييرات الهائلة التي طرأت عليهما في القرن الأخير، كذلك وصفه النادر لترتيبات دخول والي الشام مرتضى باشا إلى دمشق عند تعيينه والياً عليها، وهي ترتيبات تعكس قوة السلطنة العثمانية، القائمة أصلاً على بنية تراتبية صارمة، ذات طابع عسكري.

تحرك موكب الباشا من قلعة شيزر (لاريسا القديمة) على نهر العاصي باتجاه مدينة حماة، هذه المدينة العريقة التي كانت واحدة من أهم المدن في العصر المملوكي السابق، وكانت حين زارها أوليا جلبي في العام 1648، ما تزال تحتفظ بسمات تلك المكانة.


حماة الجميلة

وبعد أن أسهب في الحديث عن تاريخها السابق، بدأ بسرد تاريخها في الحقبة العثمانية، فقال: "تسلّم السلطان سليم حماة بالأمان، وجعلها سنجقاً (أي محافظة) تابعاً لولاية طرابلس الشام، يبلغ عدد جندها حين السفر، مما هو في بطانة أمير لوائها، ومن الجبجية الذين يقدمهم أرباب التيمار والزعامة، نحو ألفين، وفيها مشايخ للمذاهب الإسلامية الأربعة، ونقيب أشراف، ووجهاء، وأعيان، وكتخدا يري، وسردار إنكشارية، وجري باشي (أي رئيس جند)، ويوزباشي (أي قائد مائة)، ودزدار قلعة، ومحتسب، ويجبي قاضيها من نواحيها في كل سنة ستة أكياس، ويجبي أمير لوائها ثلاثين كيساً".

ويحدثنا أوليا جلبي عن قلعة حماة المبنية فوق تل صناعي على شاطئ العاصي، وهذه القلعة تحتل أهمية كبيرة في تاريخ المدينة، فهي الموقع الأصلي لمملكة حماة العائدة للعصر الحديدي، والحصن الذي يتحدث عنه أوليا جلبي، هو الحصن المملوكي الذي أقيم على أنقاض حصون إسلامية سابقة، والتي أقيمت أيضاً على أنقاض الحصن السلوقي لمدينة أبيفانيا القديمة.

بعد ذلك ينتقل رحالتنا للحديث عن قصور حماة الكثيرة والفخمة، والتي تنتشر على ضفاف نهر العاصي: "في حماة كثير من القصور الفخمة، ذات الحدائق الغناء والأحواض والمياه الدافقة، وأشهرها قصر محمد باشا الأرناؤوط، وهو مبني على شاطئ العاصي، وفيه ثلاثمائة غرفة، وقاعات عديدة، وحمامات، وحدائق، ولم أر مثل هذا القصر إلاَّ في دمشق، وقد أولموا فيه لمولانا مرتضى باشا وليمة يعجز اللسان عن وصفها".

ومحمد باشا الأرناؤوط المذكور هو والي طرابلس عام 1640، وكان مشهوراً ببناء القصور والمشيدات، ولكن؛ بسبب جوره، وفرضه الضرائب الثقيلة على السكان، عزله السلطان من منصبة وعاد ثلاث مرات، إلى أن قرر الاستقرار في حماة، حيث بنى هذا القصر الذي يصفه أوليا جلبي، ويعتقد المؤرخ السوري وصفي زكريا أن هذا القصر هو أول دار للحكومة في حماة، وقد احترقت في انتفاضة حماة ضد الفرنسيين عام 1925.

ويحدثنا أوليا جلبي أيضاً عن قصر الشيخ إبراهيم أفندي ابن الشيخ عبد القادر الكيلاني، وهذا الشيخ هو جد عائلة الكيلاني التي ماتزال موجودة في حماة حتى الآن، وكان قصر إبراهيم الكيلاني عامراً حتى عام 1982 حين دمر في أحداث حماة.

وبعد ذلك ينتقل للحديث عن مساجد حماة في ذلك الوقت فيقول: "جوامعها كثيرة، منها جامع أبو عبيدة بن الجراح، فاتح حماة، وهو في السوق الأعلى، قيل إنه كان في الأصل كنيسة قديمة، وإنه بني بمال الخراج الذي أداه أهل حمص، وقد زبرت على رخامة فيه النفقات التي صرفت في إنشائه، وألصقت على أحد جدرانه، وهناك جامع قاسم باشا المعروف بكوزلجة، وهو أول من حكم حماة من العثمانيين بعد فتح السلطان سليم، وأشهر تكاياها، تكية عبد القادر الكيلاني، وهي عامرة ومزخرفة، وذات إيراد جزيل، وتعج بالدراويش".


ناس أسواق

وينقل لنا رحالتنا صورة عن حياة مدينة حماة في ذلك الوقت فيقول إن أسواقها، وإن لم تكن بقدر أسواق حلب، إلا أنها حافلة بجميع أنواع البضائع القيَّمة، ويكثر فيها الصاغة والحلاقون، وبعد أن يشير إلى ارتفاع حرارتها وهبوب رياح السموم عليها، يقول إن اللون الأسمر يغلب على سكانها، ويقل الجمال في نسائها (!)، ثم يصف لنا أزياء أهلها فيقول: "يلبس الرجال جبباً وقنابيز ملونة، تكون في موسريهم من الحرير، وفي متوسطيهم من القطن أو الصوف، وتلبس النساء في أرجلهن أحذية طويلة الساق، ويلتحفن بملاءات بيضاء، ويصنع فيها شراشف ومناشف ومناديل حريرية، ولكثرة الشبان الذين يتجندون تكثر الفروسية بين أهلها، ويُصنع فيها سروجٌ، لجمٌ جميلة متقنة، أما قمحها فيماثل القمح الحوراني في الجودة، وكذلك الأمر في شعيرها وبقولياتها".

ويضيف: "تكثر في حماة الخيول العربية الأصيلة، أما حماماتها فكثيرة وعلى غاية في الحسن وإتقان الخدمة، وأخص بالذكر حمام محمد باشا الأرناؤوط، الذي لم أر في ديار الروم ما يماثله في الإبداع، إلا أن يكون حمام محمد كراي في بغجة سراي عاصمة بلاد القريم (شبه جزيرة القرم حالياً)".


أنين النواعير

تلفت نواعير حماة نظر رحالتنا، وهي وسيلة فريدة لرفع الماء وتوزيعه، كانت واحدة من مميزات مدن حوض العاصي على مر التاريخ، فيقول: "في حماة نواعير عظيمة منصوبة على نهر العاصي، يسمع القادمون إلى هذه البلدة أنينها من مسافات بعيدة، وهي دواليب مؤلفة من أخشاب وأعمدة ومسامير حديدية على غاية من الطول والضخامة، وتنصب المياه في هذه النواعير في قناطر، تذهب بها إلى قصور البلدة ودورها وحماماتها ومساجدها وخاناتها، ولكل ناعورة أوقاف وإيرادات، وخدم، ونجارون مهيأون لخدمتها، وإذا اقترب الزائر الغريب منها تكاد تصم آذانه من شدة الضجة، والأغرب من كل ذلك رؤية فتيان حماة المتشردين يتعلقون بأطراف الناعورة ويدورون بدورانها، حتى إذ علت بهم ألقوا بأنفسهم إلى العاصي فيغوصون فيه ويسبحون".

ويتابع واصفاً هذه النواعير وما ترويه في المدينة: "في حماة مئات من الحدائق والبساتين التي ترويها هذه النواعير، ولا يخلو كل بستان من ناعورتين أو ثلاث، على أن أعظم ناعورة بينها هي ناعورة المحمدية التي سارت بذكرها الركبان". وهذه الناعورة ما تزال قائمة حتى اليوم في مدينة حماة وهي أكبر هذه النواعير وأضخمها.


من الرستن إلى حمص وطلاسمها

بعد أن انتهت زيارة حماة، يتوجه إلى الرستن، وهي مدينة أريثوزا القديمة، ةيقول أوليا جلبي إن مرتضى باشا أرسل الأطواغ إلى الأمام ثم لحقتها القافلة في اليوم نفسه، ومعنى إرسال الأطواغ هو أن الباشا قبل تتحرك قافلته كان يرسل فرساناً يرفعون رماحاً عليها قذالات من شعر الخيل، بحسب مرتبة الباشا، لكي يعلم أهل القرى التي يمر بها في طريقه أنه قادم، وأن عليهم أن يعدوا له مكاناً مريحاً للاستراحة، وكذلك علفاً لخيوله وخيول قافلته.

ويقول رحالتنا: "لم نزل نسير في سهول فسيحة، حتى نزلنا على جسر الرستن، وهو جسر عظيم مبني على نهر العاصي، وفي قربه هضبة مرتفعة شيدت فوقها قرية كبيرة تسمى الرستن، قيل إن في جامعها ضريح المولى الشهير أبا يزيد البسطامي، يزوره أكثر أهل هذه البلاد من العرب والتركمان، ويتبركون به، والضريح تحت قبة عالية، وفي جوار جامعها تكية يأوي إليها نحو مئة من الدراويش والفقراء وأبناء السبيل، يطعمون ويكرمون".

ويشير أوليا جلبي إلى حضور وفد من دمشق إلى الرستن لاستقبال الباشا، وهو مكون من كتخدا شواش دمشق، وأمين شواشها، وآغة جندها الإنكشاري، وغيرهم من موظفي الديوان، فمثلوا بين يديه، وقدموا له هدايا منوعة، وانضموا لقافلته، حيث ساروا لمدة ست ساعات في برارٍ قفراء إلى أن وصلوا إلى مدينة حمص.

وحول وضع حمص الإداري يقول: "حمص مركز لواء يتبع ولاية طرابلس الشام، وفيها أميرآلاي ورئيس جند، ورئيس مئة، ولها أرباب زعامة وتيمار، ويبلغ عدد جندهم مع جند الباشا في أيام الحرب نحو ألفين، وفيها شيخ إسلام، ونقيب أشراف، ومحتسب، ونائب بلدة".

ويقول إن حمص "بسبب وقوعها في وسط البرية، فقد خرب الأعراب أكثر أعمالها، وقد دفن فيها الحكماء والكهان في العصور الغابرة، وتحت أرض هذه المدينة طلاسم ضد الحيوانات السامة كالحيات والعقارب وامثالها، لهذا لم يبق أثر منها، وإن وجدت بالصدفة ولسعت الإنسان لا يكون لها أثر".

ويسترسل رحالتنا في هذا الموضوع، أي موضوع الطلاسم، وهو على كل حال مذكور في جميع كتب التاريخ والرحلات التي تناولت حمص في مختلف العصور الإسلامية، حيث يقول: "إذا نقلت تربة حمص لأي مكان، وألصق قطعة منها في موضع لسع الحيات والعقارب وأمثالها، يزول أثرها بإذن الله، وسمعت من أهل حمص أن في أحد جوانبها مسجدا، وعلى بابه رخامة من المرمر، ونقش عليها صورة عجيبة الشكل، نصفها الأعلى كالإنسان، ونصفها الأسفل كالعقرب، فإذا ألصقوا على الصورة عجينة يحصلون على مثال منها، وبعد جفاف العجينة إذا ألقوا قطعة منها في النار، وبخروا بدخانها الرجل الملسوع من العقرب يزول الألم، وقد تكرم الآغا محافظ القلعة علي بمقدار منها، فحفظتها عندي، وبينما كنت ذات يوم أجول في أرومية ممن بلاد العجم لسع العقرب مملوكاً لي، فأسرعت لتبخيره بدخان تلك العجينة، فزال ألمه فوراً، وسال من محل اللسع ماء أصفر".

وفي وصفه لقلعة حمص يقول: "قلعة حمص مبنية على تل صناعي، تبعد خمسة آلاف خطوة عن العاصي، ليس لها خندق، بل باب من الحديد متجه إلى الغرب، وفي داخلها بيوت يأوي إليها المحافظون من الجنود، وفيها عدد كاف من المدافع، ولما دخل مولانا مرتضى باشا إلى حمص، ضربت هذه المدافع إجلالاً له. وقلاع حمص وحماة وحلب مبنية على تلال اصطناعية".

وبعد أن يقول إن الماء يأتي إلى حمص بوساطة ساقية شقت من العاصي، يعود إلى القلعة ليخبرنا إن فيها جامع السلطان، وهو "جامع صغير لكنه معتبر ومقصود، لاحتوائه على مصحف سيدنا عثمان المكتوب بالخط الكوفي، يخرجون به أيام الاستسقاء في السنين التي تشح الأمطار". ويضيف قائلاً: "في حمص مدارس وكتاتيب وتكايا وخانات وحمام واحد، ويأتي الماء إلى هذا الحمام من ناعورة ركبت على نهر العاصي، ويُنسج في حمص من الحرير مناشف ومناديل وفوط وأكياس، وفيها قبور كثير من الصحابة".


خان القطيفة الشهير

يغادر رحالتنا حمص بصحبة مرتضى باشا، فيصلون إلى خان عظيم يدعى "ذو البابين" وسط البادية، يقول إنه يستوعب عشرة آلاف رأس من الخيل دفعة واحدة، وفيه حصن متوسط يضم عدداً من الجنود يحرسون الطريق من أشقياء الأعراب، ويضيف أنهم ساروا جنوباً حتى وصلوا إلى قرية النبك، وهي قرية آهلة من أعمال دمشق، ذات مياه غزيرة، وكروم وبساتين وأشجار، وفيها جامع.

خان قديم - القسم الثقافي
خان قديم (Getty)

ثم بعد ذلك بمسير سبع ساعات يصلون على خان القطيفة، ويقول إن "هذا الخان من أوقاف فاتح اليمن سنان باشا، وقد وقف له سبعين قرية، والخان عظيم جداً لو دخلته قافلة مؤلفة من عشرة آلاف رجل بخيلها وجمالها لوسعها، ففيه كثير من الغرف والإصطبلات الخاصة بالخيل، وأخرى بالجمال، ومقاصير للحريم، ومستودعات للمؤونة، وفرن وحمام وحوانيت للباعة، ودائرة خاصة بالمتولي، ودوائر خاصة بالباشوات، وكل ذلك مشيد بالحجر، وفي وسطه حوض ماء جسيم، ويقدم فيه كل ليلة للمسافرين (مجاناً) عشاء من حساء القمح المطبوخ باللحم (الهريس)، وهذا غير الخبز والشمع، وغير علف الدواب، وقد أولم متولي الخان، واسمه مصطفى جلبي بن قاسم آغا، وليمة عظيمة لمولانا مرتضى باشا، والحاصل أن خيرات هذا الخان وافرة ومشهورة".

وقد درس الباحث الدكتور محمد الأرناؤوط وضع هذا الخان وأوقافه في كتاب عن وقفية الوزير سنان باشا، وأصدره قبل سنوات عديدة بعنوان "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر".


استقبال حرستا

بعد القطيفة يصلون إلى حرستا في الغوطة الشرقية التي يقول إنها قرية عامرة فيها ثلاثمائة بيت، وكثير من الحدائق والكروم وجامع، وفيها استقبلهم أعيان دمشق وكبراؤها، يحملون الهدايا من مأكل ومشرب وملبس، وقد قبل الباشا ذلك منهم، وكان من جملتها، مائة وخمسون فرساً من عتاق الخيل العربية الأصيلة، وقد وزعها الباشا على حاشيته، فأصاب أوليا جلبي منها الفرس المسرجة، وهي هدية ابن الناشف كما يقول.

ويصف رحالتنا الفرق العسكرية التي استقبلت والي دمشق الجديد بقوله: "في صبيحة اليوم التالي جاءت جنود دمشق، المؤلفة من الإنكشارية، والقبوقول، والسباهية، واليرلية، تموج كالبحر الزاخر، وكلها غارق في الحديد والزرد، فوقفت للسلام على جانبي الطريق صفوفاً متراصة، بعضها وراء بعض، وكانت راياتهم المتوجة، ورماحهم المشرعة، وسيوفهم المشهرة، ودروعهم، وخوذهم، وتروسهم، وبنادقهم ذات الفتائل تأخذ بالأبصار، وأمامهم أغواتهم وضباطهم وشواشهم، بأزيائهم وعدتهم الفاخرة، واصطف مثلهم أمير الحاج سنان باشا بجنده وحشمه، وكذلك عيسى وموسى آغا التركمانيان، وابن قاسم آغا، وابن عبد السلام، ومحمد أفندي الناشف، وابن كيوان، ودفتردار الشام، وكتخدا الشام، وأمين الشواش، واصطفت أيضاً سادات دمشق، ووجهاؤها وشرفاؤها وعلماؤها، ووراء كل منهم خدمه وحشمه، وجميعهم راكبون عتاق الخيل العربية، المعروفة أحسابها وأنسابها، وعليها أجود السروج والركب الدمشقية وأثمنها، ومتزينون بأفخر الحلل والأسلحة".

ثم يحدثنا عن جنود الباشا وخدمه وحشمه الذين مروا من أمامه، بأقبيتهم وقلانسهم واسلحتهم ومنهم مجموعة من فرسان الشركس والأباظة والكرج، مضفورو الشعر يتمنطقون بمناطق وخناجر فضية، يمسكون بعصي طويلة ودبابيس مسننة حادة. وبعد ذلك يدخل الباشا إلى دمشق معتلياً حصانه المطهَّم وهو يرفل بأبهى الحلل، من السمور الفاخر، والمخمل المزين بأزرار مرصعة، إلى أن يدخل إلى مقر إقامته في قصر منجك، حيث أقام معه هناك أوليا جلبي عدة أيام.

المساهمون