"كرمُ الصمت": عبد اللطيف اللَّعبي منذ كان طفلاً

15 يوليو 2023
عبد اللطيف اللعبي في "معرض الكتاب والصحافة" في جنيف، نيسان/ أبريل (2016 / Getty)
+ الخط -

جُمهورُ عبد اللطيف اللَّعبي الفرنسيّ أكبر بكثير من جمهوره العربيّ، فقد صيغت أعماله كلُّها، إبداعاً وترجمةً، بلسان موليير. مع ذلك، لم تنقطع صلتُه يوماً بالعروبة والضّاد قلّبُها النابض، ولا بذاكرتها الأدبيّة وما تحمله من ألوان ومعمارٍ وعاداتٍ ومقاومة في فلسطين سرُّها، مما أنشأ مزيجاً من المكوّنات تراكمَت ضمن "سيرة"، اعتنى برسمها الشّاعر التونسي أيمن حسن في كتاب "عبد اللطيف اللّعبي: كرم الصّمت"، الصّادر مؤخراً، باللغة الفرنسيّة، ضمن سلسلة "مئة كتاب وكتاب" التي يخرجها "معهد العالم العربي" بباريس، وتهدف إلى التعريف بأعمال كتابٍ ومفكّرين عربٍ، أثروا في المشهد الثقافي ونجحوا في نشر قيم الحداثة. 

ولعلّ إصدار مثل هذه الدراسة عن اللّعبي كفيل بأن يظهر جانبَ التمرّد والتوق إلى الحريّة والكلمة القلقة في كسرٍ للصورة النمطية السائدة عند أغلب الفرنسيين الذين يظنون أنّ الفكر العربي مقيّد بالنصوص الدينية، وأنّه لم ينتج شيئاً سواها، كما أن معرفته بالشعر العربي أو الذي صاغه العرب بغير لغتهم توقّف في عصر جبران خليل جبران!

تنقسم الدراسة التي قام بها الشاعر والمترجم التونسي أيمن حسن إلى ثلاثة أجزاء. تناول الجزء الأول منها مسار اللّعبي منذ النشأة إلى الآن، مع تحليل علاقاته بوالدَيْه وبمدينة فاس المغربيّة العريقة، وذكر أهمّ المؤثرات الأدبيّة والفلسفيّة التي شكّلت عقله وريشته، مثل أفكار كارل ماركس، دوستويفسكي ثم غابريال بونور.

حكاية اللّعبي مُنذ كان طفلاً في أزقّة مدينته العريقة

وفي الجزء الثاني، الذي حمل عنوان "هكذا تكلّم اللّعبي!"، استعرض حسن أبرز الموضوعات التي جالت فيها هذه الريشة، معيداً إلى الأذهان نماذج عن الحبّ والحريّة والثورة والمَغرب بَلَدِهِ، بالإضافة إلى علاقته الشعريّة الحميمة بأبنائه ووالديه ورفيقة دربه جوسلين. وخصّص القسم الأخير لوضع اللبنات الأولى لجماليّة تلقّي أعماله وأصدائها لدى بعض المثقفين الفرنسيين مثل لو كلوزيو، تمثيلاً لا حصراً، وكلهم أدلوا بشهاداتٍ تقطع بعلو كعب الرّجل في فن الشعر بمعناه الوجوديّ؛ ذلك "الشعر الذي يشبه الحياة، ولا بدّ من قَتله حتى يتوقَّف، المُنساب بحيويّة الجسد الثائر الذي يقول: لا، شعرٌ يبدع فكراً ولا يتنازلُ حتى يخلق البيئة المناسبة للفكر الحرّ"، كما جاء على لسان الشاعر الفرنسيّ برنار نويل. 

ليست، إذاً، هذه السّيرة الثقافيّة مجرّد استعراض تاريخيّ للأحداث التي شكّلت شخصيّة اللّعبي وأثّرت في مساره الفكريّ، وإنّما هي استعادة إشكاليّة تُسائل كلّ مرحلة من مراحل حياته، منذ الولادة والطّفولة وصولاً إلى الاكتمال، في سعيٍ لفَهم ترابطها وتعيين المؤثّرات الفكريّة والأدبية التي أسهمت في توجيهها. ولذلك، اجتهد أيمن حسن في انتقاء ما يتماشى من الشّواهد التي استقاها من نُصوص اللّعبي ذاته، ليمثّل بها على تموّجات هذا المسار، كأنّما يستعيده اعتماداً على ما سبق وأن صاغَه صاحب "مجنون الأمل" عن نفسه وبواسطة التعابير والصور التي أجراها، وكأنّه مؤلّف تأريخيّ قد امتزج بالاستعارات والمراجع التي تُستدعى من خلال لعبة التّناص والإحالة. 

واختُتمت الدراسة بقائمة إضافية من المصادر والمراجع التي اعتمد عليها حسن، وتشمل آثار الكاتب، مرتّبَةً حسب الجنس الأدبيّ، ثم ما كُتب عنه من دراسات وأبحاثٍ، تُفيد العودة إليها من أراد التوسّع والإحاطة. 

غلاف الكتاب

ضمن هذا الإطار يُعتبر الكتاب أبعد من كونه مجرّد تاريخ سطحيّ، فهو مُساءلة غالباً ما تنفتح على ما هو شعريّ في عمقه، بل على ما هو كونيّ وإنساني في تلك الشعريّة، حيث كان أيمن حسن ينتقل من تجارب اللّعبي المُنحصرة في الزمن والمكان بين فاس وفرنسا، ليطلقها نحو فضاء الإنسانيّة الشاملة. ولذلك، كان كلّ فصلٍ بمثابة نافذة نَلِجُ من خلالها إلى حكاية اللّعبي مُذ كان طفلاً في أزقّة بلدته العريقة، ثم طالباً في أروقة الجامعة الفرنسية، فسجيناً في غياهب السجن، ثم شاعراً، وروائيّاً وناقداً، يبحثُ عن الكلمة الحيّة والاستعارة البِكْر حتى يفضح نفاق "الكبار" وتواطؤ تابعيهم.  

وقد كشف حسن كيف استثمر اللّعبي طاقاتِه الشعريّة هذه لنقل جماليّة أدب المقاومة، فقد أكبّ الرّجل على قصائد محمود درويش، وأعمال حنا مينا، وعبد الوهاب البياتي، وسميح القاسم، ومحمد الماغوط، وسعدي يوسف وغيرهم، وصولاً للشعر الفلسطيني الجديد وترجمها إلى اللسان الفرنسي، لإطْلاع الجمهور الفرنكوفوني على كلماتها المتمرّدة وصورها الجامحة. فالترجمة، بالنسبة له، فعل مقاومة والتزامٍ، يخاطب به، منذ خمسة عقود، وعيَ الجمهور الفرنسيّ، الذي بقي سجينَ الوجوه الكبرى في أحسن الحالات، وفي أسوأها جاهلاً كلّ شيء عن الحركة الشعريّة والروائيّة العربيّة المعاصرة، ولا سيّما تلك التي تغذت بلِبان الحريّة والتمرّد. 

مُساءلة تنفتح على الشعريّ والكوني في تجربته

هكذا ظهرت قيمة النضال السياسي ثابتاً في سيرة اللّعبي، إذ عاشه يافعاً في مواجهة الاستعمار الفرنسي للمغرب، ونضج فيه حين تبنّى القضية الفلسطينية، فترجم شعرَ مقاومتها، وكان هذا من ضروب النّضال الفكري، حضرت فيه القضية الفلسطينيّة محوراً قائماً، في مثل نص "النفق"، الذي راوح فيه بين الشعر والنثر وأبدى "كرم صمته"، كما ورد في العنوان؛ هو كرمٌ صامت لأنه يستحي من طول النفق الذي يفصل بين الغرب اللامبالي وبين أنا رازحٍ تحت قيود الاحتلال وأغلال التقاليد.

وقد كان من أهداف اللّعبي، في مشروعه الفكري، التّعريف بخطاب المقاومة الفلسطينيّة وشعرها، وإبلاغه بأنصع عبارة إلى "المثقفين" الفرنسيين المنقطعين في أبراجهم العالية والواقعين، إلا فئة قليلة، تحت أسر وسائل الإعلام ورقابتها وتزييفها لجرائم الاحتلال التي غالباً ما تسكت عنها أو تعرضها بشكل مغلوطٍ. 

كانت القضية الفلسطينيّة وما زالت محوراً في تجربته

وقد أبان أيمن حسن طيّ ذلك بأنّ اللّعبي صوتٌ جريءٌ، ينزع إلى التحرّر من قيود طالما كبّلت بها السلطة عقلَ المفكر ولسانَه، وقد يبدو هذا الرفض صادماً لكنه يعبّر عن مرحلة من مراحل الفكر العربي حين اشتدّ الضّغط الأيديولوجي وثَقلت الرؤى الحزبية والشعارات التافهة التي خنقت الكلمة وفتكت بالإبداع. ولعل المنهج الماركسي، الذي تغذّى منها فكر اللّعبي شابّاً، هو الذي أضفى هذا الطابع الثوريّ، وقد كانت له شرعيته في ذلك العصر، وربما في عصرنا، لأنّ جوهر الحريّة قولُ: لا، فهي تجاوزٌ وحركة حتى لا يموت العقل في تضاعيف التقليد. وهل يحمل شيءٌ، غير الشعر، مثل هذه "الأنفاس" الرافضة؟ بعض هذه الأنفاس عنيف، لأنّه يثور بحماسة ضدّ الأفكار البالية التي لم يعد لها من وجاهة سوى ما تردّده السلط القائمة للحفاظ على امتيازاتها.

أن يكتب اللّعبي باللسان الفرنسيّ يعني أنه استحوذ على "غنيمة حرب" بتعبير الكاتب الجزائري كاتب ياسين، وعلى "سلاحِه"، وبه قاوم مُحتلّيه حتى استوى معهم ندّاً ورضوا به رفيقاً ومحاوراً، ثم ها هو يستخدم هذا السّلاح ذاته لـ"أغراض سلمية": نقل كنوز الثقافة العربية المعاصرة وعيونها من شعر المقاومة حتى تسطع الحرية التي لا تستكين لغطرسة الاحتلال ولا لعطالة الأوهام.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون