لم يحظَ التأليف العربي، من زاوية المعلوماتية الببليوغرافية، بالدراسة الكافية قبل صدور كتاب "عبقرية التأليف العربي: علاقات النصوص والاتصال العلمي" لأستاذ علم المعلومات المصري كمال عرفات نبهان الذي حلّ ضيفاً على "مكتبة قطر الوطنية" أوّل أمس الأحد.
هذا الكتاب الذي صدر عام 2006 أصبح من المقرّرات الأكاديمية في عدد من الجامعات العربية، وقد أهداه مؤلّفه إلى العلّامة مصطفى الشكعة (1917 - 2011) الذي احتفى به، واضعاً مقدّمة ضافية له، فأتت لفتة التقدير من أستاذ كان أوّل مَن ألّف كتاباً أكاديمياً موسوعياً في هذا الميدان: "مناهج التأليف عند العلماء العرب".
جاءت ظهيرة أوّل أمس الأحد ليطلّ نبهان على روّاد "مكتبة قطر الوطنية"، ملقياً محاضرة عن بُعد بعنوان "أنواع التأليف في التراث العربي وعلاقاته"، هذه الأنواع التي بحثها المؤلّف وسجّل منها 64 نوعاً.
استند المحاضر إلى أربعة عقود من البحث حتى خرج بمنهج جديد لعلم الببليوغرافيا التكوينية التي درست ما أمكنها من نتاج معرفة هائلة من الحضارة العربية الإسلامية.
فقد وجد خلال عمله في المكتبات وعلم المعلومات أن المكتبيين العرب يتعاملون مع المؤلّفات فهرسةً وتصنيفاً وحصراً ببليوغرافياً، لكنّ بعضهم حين تمرّ بين يديه مؤلّفات كالذيول والاستدراكات والشروح والردود والتهذيبات، لا تسعفه خلفيّته النظرية والدراسية والخِبروية في إدراك العلاقات بين هذه النصوص ونصوص سابقة وأخرى لاحقة.
افتتح نبهان محاضرته بالقول إن علم النصوص يُصَنَّف بأنه شديد الارتباطات، لأنه يجمع بين دراسات المعلومات والأدب والتاريخ والديانات والعلوم الاجتماعية وغيرها في لحظة واحدة.
ووفقاً لما قال، فقد اكتملت عناصر التأليف العربي وتأسّست على بنية قوية من تدوين العلم وتصنيف الكتب، وتكاملت مع ما أضافته الترجمة إلى الذاكرة العربية ودارت عجلة التأليف والإبداع والتطور.
من الثقافة الشفوية الغالبة على عصر ما قبل الإسلام، إلى نحو قرن للهجرة، كانت الحضارة العربية وصلت إلى ما يسمّيه "جنون التدوين" الذي انطلق من تدوين الشفهي سواء في القرآن والحديث النبوي ومعاجم اللغة البكر، ثم تسارع ليبلغ مرحلة الترجمة والتأليف في العلوم والفلسفة والأدب.
"كانت لدينا آلافٌ مؤلّفة من القطع المتناثرة في حالة يصعب إدراكها، حتى جاءت عقول بالغة الدهاء جمعت هذه المدوّنات ورتّبتها في منهج جديد اسمه: التصنيف"، كما قال.
تعرّف المحاضر إلى كثير من هؤلاء، وفي مقدّمتهم ذوو المنجزات الكبيرة الفارقة، كابن النديم في القرن العاشر الميلادي، الذي افتتح كتب التصنيف بكتابه "الفهرست" الذي جمع فيه ما صدر من كتب بالعربية وغير العربية، وصولاً إلى حاجي خليفة في القرن السابع عشر، صاحب كتاب "كشف الظنون"، وهو مسرد ضخم للكتب العربية والفارسية والتركية.
ومع المنجز التدويني الضخم ظهرت كتب التصنيف، كما نشأت كتب متوالدة من سلالة نصّية تحت اسم "التفريعات" التي تشبه قولنا "نصّ على نصّ".
يقول المحاضر إن من هذه التفريعات في التأليف العربي ما امتدّ إلى ستة قرون، بل إن واحداً منها، وهو كتاب "القانون في الطب" لابن سينا، بقيتْ تظهر تفريعاته على مدى ألف عام، واستمرّ حتى القرن العشرين حين ألّف عالِم تونسي كتاباً لشرح الكتاب ونشرته "جامعة قطر" قبل ثلاثين عاماً.
يبيّن ذلك كما يواصل، أن يكون "الكتاب الأم" أو "الكتاب الإمام" أو "الأستاذ" أصلاً كبيراً يليه كتاب شارح له، ثم آخر يشرح الشرح، وآخر يلخصه، ثم يترجم، وقد يأتي شخص يهذبه، أي يأخذ ويستبعد منه، إلى آخر فنون التأليف.
ما كان لهذا الحقل الخصب أن يُضبَط سوى بمصطلحات جديدة ابتكرها نبهان، ومن ذلك "مخطّط علاقات النصوص" الذي سمّاه Bibliogram، وهي كلمة جديدة في اللغة الإنكليزية ويتفرع منها "المخطّط الزمني لعلاقات النصوص" Biblio – chronogram.
لم يكن هذا المنجز خلال 14 قرناً أقلّ من أن يكون "عبقرية"، وهذا ليس امتداحاً للذات، كما يضيف، بل لِما فيه من إتقان للصنعة وإجادة في صناعة التأليف.
وكانت "مكتبة قطر الوطنية" قد بدأت سلسلة من الفعاليات الثقافية تستمرّ حتى يوم الرابع من نيسان/ أبريل المقبل، الذي يُحتفل فيه بـ"يوم المخطوط العربي"، ومنها ما يتعلّق بدراسات المخطوطات وعلم الكوديكولوجيا، وأحدث التطوّرات في البحث العلمي في هذا الشأن، وملامح الإنتاج الفكري الحالي وما أُنجز فيما يتّصل بدراسات المخطوطات الإسلامية.