ما زلنا نعاني من ذاك المذيع الذي يقطع كلامنا قائلاً ومكرّراً: "وصلَتْ فكرتُك، وصلَتْ فكرتُك"، ويبدو هذا الشخص ــ خصوصاً وهو يرمِش كثيراً ــ قادماً فقط ليفرض هيبته على الآخرين، ويقمع رأيَهم، في الوقت الذي يسألهم عن انتهاك تكميم الأفواه (لاحظوا أن مواضيع تكميم الأفواه خفّت كثيراً في العامين الماضيين لأن كِمامات كورونا لم تترك مجالاً).
ولأن المذيع أكثر شهرة من مديري الجلسات والمحاضرات والندوات، يَبرُز أمامنا كنموذج فاقع، بينما، في الحقيقة، أغلب مَن توكَل لهم إدارة الميكروفونات يقعون (يوقعون أنفسهم) في امتحان جدارة: كيف على ميكروفوني أن يكون مختلفاً، حتى لو أنه يضيء أحمر وأخضر كما الآخرين؟
سنفكّر قليلاً في هرمون السلطة المتوفّر في نسخته الشعبية من خلال عريف الصفّ، وصولاً إلى صاحب السلطة العربية على عرشه، حين يقول ــ كما في مسرحية للفنان الأردني خالد الطريفي أوائلَ التسعينيات ــ: "أعطوه ألف دينار ثم اقطعوا رأسه".
حين نلجأ إلى عنوان "كيف تلخّص أفكارك؟" نعرف أنه يشبه عناوين الكتب المشعشعة في أوّل رفوف السوبرماركت، بجانب رفّ العلكة، مثل: "كيف تؤثر في الآخرين؟ و"250 خطوة إلى قلب الزوج". بيد أن للضرورة أحكاماً، فأنت حينما تتابع محاضرات وندوات تودّ القول: لماذا لا نقرأ كرّاسة تعلّمنا كيف نختصر وندير الوقت؟
ولو أنني، بسبب من الحماسة المفرطة الآن، ألّفتُ كرّاسة، لما وجدت عنواناً أفضل من "أعطوه ألف دينار ثم اقطعوا رأسه". فشخصية الخليفة، في مسرحية الطريفي، تلخّص هنا الحياة المزدهرة وإعدامها في خمس كلمات وحرف عطف.
هذه كرّاسة مُدانة، ستجد الكثيرين ممّن يصبون جام الغضب على صاحب السلطة وجريمته، ومعهم كلّ الحق، وأنا سأتراجع، لأن من الضروري أن أسمع تحليلاً عن فساد السلطة التي تصل مدىً من الغطرسة حتى أنها تمارس اللهو بحياة العباد، وسأكون مقتنعاً وسأحاول البحث عن نموذج مَدني لكيفية إدارة الوقت بوصفات تجعل العالم سهلاً مثل سهولة تحويل الصوفا إلى سرير.
إذا كنّا أربعة أشخاص، لكلّ واحد منّا ربع أو ثلث ساعة للحديث، فإننا أمام ساعة على الأقل من الاستماع. أضف إليها الأسئلة والمداخلات والأخذ والرد والمفاجآت، مثل زحلقة المحاضِر أثناء صعوده إلى المنصة، أو صياح طفل لا نعرف من أمه ومن أبوه. كلّ هذا سيوصلنا إلى ساعتين.
الغرام كلّه في هذا الجهاز السحري المسمّى ميكروفون
ما يقع دائماً، هو أن المحاضِر يُفاجأ بأن وقته شارف على الانتهاء. المحاضر لا يمكن له أن يرى أيّة إشارة باليد أو الوجه، لأنه غارق في قراءة "رسالة من تحت الماء"، والحلّ هو أن يعلو صوت مدير الجلسة، أو يدفع له بورقة أنِ اختصر أيّها السيّد الكريم.
يُفاجأ المحاضِر بأن الوقت داهمه، وأنه لم يدخل بعد في لُب ّالموضوع. لُب الموضوع يحتاج إلى أن نعطي المحاضرين الباقين المعاصرين ألف دولار وأن نخرجهم من المنصّة دون قطع رؤوسهم، فيأخذ هو "زمنه وزمن غيره".
لكنْ لأن ذلك لا يحدث، فما كان ينبغي قوله في ربع أو ثلث ساعة، يضطر الأخ الكريم ــ تحت الوقت الذي ينفد إلى السرعة ــ فتصبح قراءته لاهثة ومتصبّبة عرقاً مثل تلميذ يقرأ "يا بائع التفاح تعال في الصباح" بسرعة كأن كرباجاً يلاحقه.
الغرام كلّه في هذا الجهاز السحري المسمّى ميكروفون، الذي يضخّم الصوت ويجعله مسموعاً لأوّل مرّة، مختلفاً عن طبيعة الصوت. وهو لأوّل مرّة دائماً مثل الولادة والموت.
والصراع على أحقّية الكلام يبدأ منذ اللجوء إلى نهاية الموت. فالإنسان يولد لاجئاً، بما أنه طُرد من الرحم، وهو منذ صرخته الأولى يبحث عن ميكروفون.
لنلاحظ أن المتحدث ــ سواء أكان محاضراً أم متدخّلاً ــ تستبدّ به رغبة سرّية ليحكي للعالم سرديته، ولكنّ العالم من الجلافة حدّ أنه يسحب الميكروفون منه بالقوة، رغم أنه لم يكمل ما يريد.
إنه كائن مقهور في داخله، وسرديته لم تتمكّن من الوصول، بسبب سلطة المذيع ومدير المحاضرة أو الندوة، والقليل من "المقهورين" يتذمّرون ويندّدون، لكنّ الأغلب يذعنون، حتى لا يُحرموا من مناسبات وفرَص مقبلة، يسمعون فيها أصواتهم في الميكروفون، فيشعرون بما قاله باشلار: "دهشة عثور الطفل على عُشّ".
طيّب، إذا كان لديك وقت محدّد لتقول ما تريد، لماذا نسمع دائماً هذه العبارة: "إن الوقت المحدّد لا يكفي للأسف للإحاطة بكل ما لديّ، ولكني سأوجز"؟ لماذا تكتشف أهمّية الإيجاز فقط في ربع الساعة الأخير؟ لديك من الوقت الكافي لتكيّف موضوعك وفق الزمن المتاح. لا يجوز أن تعدّد من نقاطك العشر فقط ستّاً أو سبعاً، وتفصّل وتسرح وتمرح فيها، ثم تُفاجَأ بأن وقتك قد انقضى.
لا يجوز أن تدمج زمنين، زمن فلسفة تأمّل عنكبوت وهو ينسج بيته، وزمن المحاضرة أو المداخلة.
في رمضان الماضي، حضرتُ ندوة، ورفعتُ يدي لطرح سؤال، وأنا أرفع يدي مرّة كلّ عشر سنوات. ومثلي مثل الآخرين، أدّعي أنني سأطرح سؤالاً، ثم أجد نفسي أقدّم مداخلة، وأنني حصلتُ على فرصة لأحكي حكايتي التاريخية.
سمعتُ صوتي يتردد في القاعة وفاجأني، وأنا أستخدم كلمات كأنني أجرّبها لأوّل مرة، وهي تصعد إلى سماء القاعة وتنتشر، والناس مُطرقون، حتى كان خطيبٌ قزم في داخلي يتحرّك ويكبر، ويخبط عظام الصدر، وتهيّأ لي أنني سأصعد فوق إحدى الطاولات، وأخطب خطبة تزلزل الأرض تحت أقدام الغزاة، إلى أن هتف لي مدير الندوة: "أستاذ، نرجو الاختصار، ماذا تريد أن تقول بالضبط؟".