استمع إلى الملخص
- **تحليل الصراعات الطائفية والسياسات الدولية**: يقدم الكتاب تحليلًا للصراعات الطائفية في جبل لبنان ومدن الشام، ودور الإصلاحات العثمانية والتغلغل الغربي، بالإضافة إلى السياسات الدولية وتأثيرها على الهويات الجماعتية.
- **نقد الطائفية والدعوة لبناء وطن موحد**: يناقش كوثراني ضرورة تحويل الطائفة من كيان ديني إلى سياسي، ويشدد على أهمية السياسات التي تعيد النظر في التاريخ لبناء وطن موحد ودولة مواطنين تؤمن بالحرية والمساواة.
عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت طبعة جديدة من كتاب "لبنان: من المتصرفية العثمانية إلى دولة لبنان الكبير (1858- 1920) - التكوين التاريخي في إطار الاتجاهات الاجتماعية- السياسية في المشرق العربي" للكاتب والمؤرخ اللبناني وجيه كوثراني.
الكتاب هو طبعة رابعة (وخامسة غير مرقّمة) لمادة تاريخية تتعلق بتاريخ لبنان الصغير والكبير وملابسات إنشائه في الظروف الدولية والعثمانية، تطوّر فيها فكر الكاتب على إثر مروره بعدة تجارب بين الطبعتين الأولى والأخيرة، جعلته يعتبر مادة الكتاب التاريخية قديمة تستوجب طرح أسئلة للارتقاء بالقراءة التاريخية للبنان في ضوء ما مر به من أحداث جسام بين حربَي ستّينيات القرن التاسع عشر وثمانينيات القرن العشرين الأهليتين.
أصل الكتاب أطروحة دكتوراه من "جامعة السوربون" في عام 1974، نُشرت في طبعتها الأولى عن "معهد الإنماء العربي" عام 1976، وشهدت إقبالاً من القرّاء دفعَا المعهد إلى إصدار طبعتين أخريين (الثانية والثالثة) عامَي 1978 و1982، ثم أصدرت الكتابَ "منشورات بحسون الثقافية" عام 1986 من دون ترقيم للطبعة.
يتناول الكتااب تاريخ لبنان الصغير والكبير وملابسات إنشائه في الظروف الدولية والعثمانية
وتحافظ الطبعة الرابعة الصادرة عن "المركز العربي" على العنوان الفرعي، ولكن ضمن العنوان الأساسي بعد حذف بعض الفصول. ويشير كوثراني في مقدمتها إلى أنه عمل في كتابه هذا بإلهام من قول ماكس فيبر إنّ كل عمل علمي يجب أن يستولد أسئلة جديدة تجعله مع الوقت قديمًا وعُرضةً للتجاوز. ولذلك فقد توقّف عند أسئلة جديدة، فرضتها الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975 وجعلته ملتبِسَ الفكر في أمر إصدار مؤلَّف جديد لا يتضمن أمر الحرب وهواجسها وأسئلتها وقلق معايشة سنتيها المأساويتين، على غرار: أستقتصر الحرب على السنتين أم ستطول؟ هل سيحتوي الكتاب على إشارة إلى علاقة ما بين صدوره في وقت الحرب الأهلية (1976) وبين موضوعه، وهو حرب جبل لبنان في ستينيات القرن التاسع عشر؟
لم تكن هذه الأسئلة معزولة عن تعليقات المثقفين الذين تتنازعهم الحرب، المادحةِ منها والمنتقدة، والتي عكست اختلاف إجاباتهم عن أسئلة الكتاب وتعدد أيديولوجياتهم حول مسائل كبرى، مثل: الهوية وحقوق الطوائف وفلسطين والمقاومة والإصلاح وغيرها، مع استمرار ذاكرة "الجماعات" اللبنانية خلال تلك الحرب في استعادة عناوين الصراعات المختلفة: الإمارة، والأحداث الطائفية، وخصوصية الجبل، وإعلان "لبنان الكبير"، ودستور 1926 (إعلان الجمهوري)، وميثاق 1943، وغيرها.
يأتي جديد الكتاب فهمًا وتفسيرًا مختلفَين عمّا هو سائد في ذاكرات الطوائف وخطاباتها، ولا سيما الموارنة وفهمهم للإمارة ووظيفتها، والطائفية وأسبابها، ومحطات تكوين الدولة تاريخيًّا. وقد تمحور هذا الجديد حول كون "الإمارة" جزءاً من طبيعة التركيب السلطاني العثماني، وكون الصراع الطائفي في الجبل ومدن الشام نتاجَ تقاطعات بين "الإصلاحات" العثمانية والتغلغل الغربي عبر الإرساليات وتدخل القناصل الأجانب، ووجود قوى "محافظة"، تركية وعربية، ناهضت الإصلاح وحرّضت المسلمين على الرفض.
واعتماداً على الوثائق المحلية والأجنبية، ولا سيما الفرنسية، قدّم الكتاب وصفًا تحليليًّا لمسار ما بعد الانفجار الطائفي في الجبل، جامعًا أحداثًا ومواقف وخطابات لمجموعة متشابكة ومتداخلة من الفاعلين المحليين والإقليميين، ومنهم على سبيل المثال أعيان الطوائف الذين أضحَوا، بعد إلغاء بروتوكول 1864 - 1861 الخاص بالمتصرفية امتيازاتهم، موزَّعين بين الإدارة العثمانية المحلية - البديلة من المقاطعجية والحامية للمالك والتاجر - والقناصل والبطريركية المارونية. أما المتصرف العثماني المسيحي غير اللبناني، فكان يستخدم تناقضات أعيان الطوائف لتكبير نفوذه أو تكبير ثروته. وبناء عليه، فقد تشكّل "الثالوث" السلطوي، "أرض - إدارة - مال"، الذي نمت في ظله الزبائنية السياسية المتزاوجة مع الطائفية في لبنان الصغير (المتصرفية) ولبنان الكبير لاحقًا (الجمهورية).
يقدّم الكتاب وصفًا تحليليًّا لمسار ما بعد الانفجار الطائفي في جبل لبنان
ويبحث الكتاب دور السياسات الدولية في ظهور المواقف السياسية المختلفة في الشرق من الدولة العثمانية والإصلاح واللامركزية والاستقلال والقومية والثورة العربية، بصفتها إطارًا لتكوين الدولة الحديثة في المشرق العربي، ومنها لبنان الكبير، وأهداف هذه السياسات ولزرع المخاوف المتبادلة بين المجموعات اللبنانية الطائفية، حيث تبرز فرضية الكتاب: هل لا نزال نعيد إنتاج الذاكرات الجماعتية ونستمر في صنع هويات متنافرة ومتقاتلة تدمج الإثنية بالطائفة؟
ويتساءل المؤلف عن دخول دعوة الكاتب كمال الصليبي اللبنانيين إلى الإقرار بلبنانيتهم منذ إعلان لبنان الكبير ومطالبته إياهم بتنظيف تاريخ طوائفهم، حيزَ الممكن، فيقول (بتصرف): لمن يوجّه الصليبي الدعوة؟ أإلى مواطنين أم إلى طوائف؟ وبأي صفة؟ أبالصفة الدينية-المذهبية أم بالصفة السياسية؟ وبعد أن رجّح توجّه الصليبي إلى الطوائف بصفتها جماعات، قال إنّ معادلة التنظيف لديه عروبية إسلامية تهدّئ من الغلو القومي الإسلامي الدمجي، كما تحدّ من المبالغة في تمجيد خصوصية الدولة الطائفية- المسيحية، فضلًا عن أنها أقرّت ميثاقية لبنانية نجحت في تكريس توافق سياسي اهتز بعدها بسبب أخطاء ارتكبت.
وينحو كوثراني إلى أنّ "الطائفيات السياسية تستطيع تحويل الطائفة من حالة دينية إلى كيان سياسي"، وأنّ عليها ليس تنظيف منازل الطوائف، بل تنظيف السياسات وتنشئة مُواطن منفتح على المعارف والثقافات ومتفهّم خصوصيات الطوائف الأخرى. فالسياسات تؤسس لبيئة تشجّع إعادة النظر في التاريخ عبر التنقيب في طبقاته، وليس نزع قشرة ما علق به من خيوط عناكب طائفية وأيديولوجية وقوموية وماركسوية وادعاءات ليبرالية. وعلى هذه السياسات في المقام الأول عدم "أسطرة" التاريخ لمصلحة حزب أو كيان طائفي سياسي، أو استخدامه للاستقواء السياسي، ببعث صور مستثيرة لذاكرة جماعية طائفية.
ويتذكر كوثراني شجون سياسات لبنان الحالية ومآسيها في مئويته الأولى، معتبرًا أنها ستطول، استلهامًا من متخيَّل المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل المليء بالدروس والعبر وإن في قرنه السادس عشر وبيئته الأوروبية، وأهم بنوده أنّ ذاكرات الطوائف وهوياتها لا تبني وطنًا ولا تنشئ مواطنين. وعرّج المؤلف على كتابات ميشال شيحا ومقالاته بين عامَي 1936 و1953، التي عبّرت مبكرًا عن مشكلة التركيب البنيوي في الثقافة السياسية اللبنانية السائدة، التي تجمع بين الكمّ الهائل من الحماسة لـ "سويسرا الشرق" والنقمة العشواء على طبقة سياسية فاسدة وجاهلة.
ويتوصل كوثراني إلى أنه منذ نقمة شيحا على ثقافة الطبقة السياسية وسلوكها الوضيع، ونصيحة الصليبي بتنظيف منازل الطوائف، يبقى المأزق اللبناني قائمًا، لرسوخ عقدته البنيوية التكوينية في نفوس اللبنانيين وذاكراتهم الهوياتية. في حين أنّ بناء المستقبل يدعونا إلى تذكّر تاريخ الاختلاف من أجل النسيان، وبناء وطن قابل للحياة ودولة مواطنين قادرة على تأمين الحرية والمساواة، مستشهدًا بقول لإرنست رينان مفاده أنّ جوهر الأمّة يتمثل في امتلاك جميع الأفراد أشياء مشتركة وأشياء للنسيان.