استمع إلى الملخص
- تميزت بيروت بانفتاحها على المتوسط وأوروبا، مما جعلها مركزًا ماليًا وسياحيًا جذابًا، وتزامن ذلك مع استقلال لبنان في 1943 وانتخاب بشارة الخوري رئيسًا، مما عزز دور لبنان الإقليمي والدولي.
- انتهت الحرب الأهلية اليونانية بانتصار الجبهة اليمينية المدعومة من الحلفاء بعد انسحاب القوات الألمانية في 1945، وساهمت موسكو في هذا الانتصار بعد اتفاق تشرتشل وستالين.
قد يثير العنوان الشجون وهو يتحدّث عن "مؤتمر لبنان" عام 1944 لتقريب أطراف اليمين واليسار في اليونان التي كانت على شفير حرب أهلية كبيرة، وهو البلد الذي كان يُسوَّق آنذاك باعتباره "سويسرا الشرق"، ثمّ ارتبطت شهرته لاحقاً بالحرب الأهلية الأُولى (1958) والثانية الأشهر (1975 - 1990) التي لا تزال في الذاكرة.
لا يمكن أن نلوم الشاعر الفرنسي لامارتين (1790 - 1869)، الذي زار بلاد الشام (لبنان وفلسطين وسورية) خلال 1832 - 1833 ونشر عام 1835 كتابه "رحلة إلى الشرق"، على ذكر الشبه بين جبل لبنان وجبال الألب. وفي الحقيقة كان الجبل نواة الكيان اللبناني الجديد تحت مسمى "متصرّفية جبل لبنان" في 1861 وخزّاناً لبيروت التي أصبحت مركزاً لولاية في 1888، ليجتمع الجبل والساحل ضمن "دولة لبنان الكبير" في 1920، ويتمّ الترويج أكثر لاسم "سويسرا الشرق" أو الكيان الذي يربط ما بين الشرق والغرب.
كانت بيروت التي تتوسّع على سفح جبل لبنان منذ نهاية القرن التاسع عشر تبرز الآن مدينة مختلفة عن مدن الداخل (دمشق وحلب) وتتحوّل إلى مدينة منفتحة على المتوسّط وأوروبا بعمارتها وفنادقها ومصارفها الطموحة لجذب الأموال من دول الجوار، ممّا كان يشكل العنصر الجديد المهمّ لـ"سويسرا الشرق"، بعد تبنّي البرلمان اللبناني قانون السرّية المصرفية.
في هذا الجوّ كان إعلان استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943 وانتخاب بشارة الخوري رئيساً له محطّةً فاصلة نحو دور إقليمي (مفاوضات تأسيس جامعة الدول العربية في 1944) ودولي (المشاركة في مفاوضات تأسيس الأمم المتّحدة في 1945).
قبرص واليونان
لم تكن قبرص تبعد كثيراً عن لبنان بالمعنى الجغرافي (حوالي 200 كم) أو الثقافي، حتى إن أنطون سعادة، مؤسّس "الحزب القومي السوري"، كان يعتبرها نجمة "سورية الكبرى"، كما أنّ قبرص هي الجسر بين لبنان واليونان. ولذلك جاء اختيار لبنان مكاناً للقاء مهمّ جمع أبرز الأطراف المتنازعة في اليونان التي راحت تشهد بداية حرب أهلية خلال 1942- 1944، في الوقت الذي كانت فيه القوّات الألمانية تبدأ بالانسحاب من اليونان للدفاع عن ألمانيا نفسها أمام التقدّم السوفييتي نحو أراضيها في 1944.
وكانت جيوش إيطاليا وألمانيا وبلغاريا قد اجتاحت يوغسلافيا واليونان في السادس من نيسان/ إبريل 1941؛ حيث تقاسمت الدول الثلاث هذه المنطقة الحيوية التي تمتدّ من شمال الأدرياتيكي إلى جزيرة كريت. وبحسب الاتفاق الثلاثي، احتلّت القوّات الإيطالية معظم اليونان مع جيوب ألمانية وبلغارية هنا وهناك. ومع استسلام إيطاليا في أيلول/ سبتمبر 1943، برز التنافس بين تشكيلات المقاومة المسلّحة في شرق ووسط وغرب اليونان التي توزّعت بين اتجاهات ملكية وجمهورية ويسارية ويمنية، وأصبحت تهدّد بحرب أهلية.
اتُّفق على تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة جورج باباندريو
وكان من أبرز التنظيمات "جبهة التحرير الوطنية" EAM التي نشأت عن توحُّد أربعة أحزاب يسارية، والتي برزت قوّةً عسكريةً في ربيع 1942 مع تشكيل "جيش جبهة التحرير الوطنية" ELAS الذي كان تحت تأثير الحزب الشيوعي اليوناني بقيادة زخريانس. أمّا في الجهة الأُخرى، فقد برزت "الرابطة الوطنية للجمهورية اليونانية" EDES بقيادة الجنرال نابليون زرفاس، والتي تمركزت في شمال غرب اليونان وحظيت بدعم الحلفاء خصوصاً بريطانيا.
مع اقتراب الجيش الألماني من أثينا، غادر الملك جورج الثاني مع حكومته برئاسة تسوديروس إلى المنفى في مصر، حيث استقرّت هناك أيضاً في معسكرات بقايا الجيش اليوناني المنسحب. وبسبب تفاقم الأخطار من الحرب الأهلية في اليونان، قدّم عدد كبير من ضبّاط القوّات اليونانية وجنودها في مصر إنذاراً إلى رئيس الحكومة اليونانية في المنفى في 30 آذار/ مارس 1944 يطالبونه فيه بقبول مطالب "جبهة التحرير الوطنية" اليسارية بإنشاء حكومة وحدة وطنية. إلّا أنّ هذا الأمر أزعج بريطانيا، فحاصرت معسكرات القوّات اليونانية حتى استسلامها، ونفت نصفهم (20 ألف جندي) إلى معسكرات اعتقال في إريتريا وليبيا، لكنّ بريطانيا، من ناحية أُخرى، فرضت رئيس حكومة (جورج باباندريو) مقبولاً أكثر من الجبهة اليسارية.
في ضهور الشوير
كانت هذه خلفية انعقاد "مؤتمر لبنان" في منتجع ضهور الشوير قرب بيروت، والذي جمع حوالي عشرين شخصية سياسية وعسكرية تُمثّل الأحزاب السياسية الرئيسية في اليونان وقادة التشكيلات العسكرية اليسارية واليمينية، بمن فيهم الرئيس الجديد لحكومة المنفى جورج باباندريو.
انتهت الحرب الأهلية بانتصار الجبهة اليمينية التي دعمها الحلفاء
ومن الواضح أنّ اختيار منتجع ضهور الشوير كان لكونه مناسباً بصفته منطقة هادئة بين أحضان الطبيعة تصلح للحوار بين الأطراف المختلفة، كما كان لبنان منطقة وسط بين مصر (مقرّ الملك وحكومة المنفى والجيش الموالي للملك) وبين اليونان التي باتت الجبهة اليسارية تسيطر على مناطق واسعة خارج المدن الرئيسية بسبب دعم الأحزاب الشيوعية في الدول المجاورة لها (ألبانيا ويوغسلافيا وبلغاريا).
في هذه الأجواء، استمرّت اجتماعات "مؤتمر لبنان" بين 17 و20 أيار/ مايو 1944) وتُوّجت بالموافقة على مطالب عريضة الضبّاط والجنود اليونانيّين في مصر بالموافقة على مبادرة الجبهة اليسارية بتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة السياسي المعروف جورج باباندريو ومشاركة الجبهة اليسارية بستّة وزراء.
ولكن هذه الحكومة لم تُعمَّر طويلاً بسبب التنافس بين القوّات اليمينية واليسارية بعد انسحاب كلّ القوّات الألمانية في ربيع 1945، ما أدّى إلى حرب أهلية عنيفة خلال 1946 - 1949 انتهت بانتصار الجبهة اليمينية التي حظيت بدعم كبير من الحلفاء خصوصاً من بريطانيا والولايات المتّحدة. ولكن موسكو ساهمت بدورها أيضاً بعد اتفاق تشرتشل وستالين على تقسيم مناطق النفوذ في أوروبا الشرقية، حيث آلت اليونان إلى الغرب، ولذلك طلب ستالين من الحزب الشيوعي اليوناني التعاون مع حكومة باباندريو، ثمّ أمر الأحزاب الشيوعية التي وصلت إلى الحكم في الدول المجاورة (بلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا) بقطع المساعدات عن الجبهة اليسارية وإغلاق معسكراتها في أراضيها.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري