عدتُ من جولة في الريف المُمتدّ، منكسرَ الهِمّة والقلب معاً. كلُّ هذا الفراغ الأخضر، يا إلهي، يُؤلم. غربتي تتوحّش يوماً بعد يوم. لم يعُد شيءٌ في أرض النفي واللجوء هذه يُنادي أبداً، أنْ هلمَّ. أرى أمواج طلبة المدارس، مُجِدَّة على درّاجاتها الهوائية، مُيمِّمة نحو العِلْم.
منظرٌ صباحي، كان زماناً يُبهجني ويُشعرني ببعض الثقة في هذا العالَم الخطِر والشائك. اليوم، ماتت كلُّ تلك الأحاسيس، والله. لقد مضى أسبوعان على تركي المصحّة في "سينت فرانسيسكو كلينك". أسبوعان، ولم يُرسلوا لي حتى اللحظة، بالمُمرّضات، كما جرت العادة، مرّتين في اليوم، منذ سنة ونصف.
م يسألونك بكلّ برود: لمَ ينتحر لاجئون من فلسطين وأفغانستان؟
ميريام، طبيبة العائلة، قالت إنّ الطبيب النفسي في تقريره، لم يُشر إلى ضرورة حاجتي لذلك. حاجتي لذلك، كيف، وهو لا يعلم أصلاً بوجود هذه المُمرّضات، لأني لم أكلّمه عنهنّ؟ واضح أنّ الطبيبة تريد توفير ثمانين يورو يومياً، مصاريف التمريض المنزلي، بإيعاز من نظام الخدمات الاجتماعية هنا.
ثم يسألونك، بعد ذلك، بكلّ برود الغرب: "لمَ ينتحر بعض اللاجئين المراهقين وخاصة من فلسطين وأفغانستان؟".
ألا يعرفون أنّ اللاجىء شخص طَموح في العادة، وأنّ شيئاً من هذا القبيل لم يكن ليكون مُمكناً، لو كانت هناك مقدّمات أُخرى ناجحة، خلال استقبالهم منذ أول أيام اللجوء، وأنّ جميع اللاجئين تقريباً مرتبطون ارتباطاً وثيقاً، على الرغم من آلاف الكيلومترات التي تفصل بين بلدانهم الأصلية. وأنّ الانتحار أمرٌ متوقّع بسبب التوسّع والازدحام وسوء الخدمات وطول الانتظار، في مكان ضيق وواحد، حيث يُدحَش كلّ أربعة لاجئين تحت سقف زنزانة واحد، متى تكون الأرانب المناسبة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب؟ ألا يعرفون أنه كانت لذلك عواقب وخيمة في العديد من النُّظم البيئية، التي تعرّضت في وقت واحد لأفعال المستوطنين البِيض والأنواع الغازية، بحشرهم في محميّات.
إنّ هناك العديد من السِّمات التي يُمكن أن تجعل الأرانب الداجنة ذات الأصل البرّي غير مهيّأة للبقاء في البرّية، ولكن من المحتمل أنها تفتقر إلى التبايُن الجيني اللازم للتكيُّف مع مناخ بعض البلدان الرّطب والجاف. لذلك، كانت العاصفة مثالية: الأرانب الصحيحة في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب مدلّاة من حبل أو شاربة شريط دواء كاملاً. وأنه سيحدث الموت. الموت سيحدث لا محالة. فلطالما كانت لدى بعضنا رغبة كبيرة في القيام بذلك، لكنّ هذه الأشياء، كما يتراءى، تستغرق وقتاً. إني مقتنع بأن ذلك سيحدث ولن يكون على المدى الطويل. وبقدر ما أشعر بالقلق حياله، لا شيء سيكون أكثر إثارة من أن يحضر هو على حين فجأة، تحت شجرة بالمخيّم... لكنّ العديد من العلماء والمؤرّخين يعترفون بأن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، في حالة كان المرء، لسبب ما، شاعراً أو مراهقاً، بالصدفة.
فأن تُراهق، أن تكتب الشعر، وأن تجمع هذا مع فوائد المناخ غير المعتدل في إقليم فلاندرز ومراعيه من الدرجة الأُولى، والكثير من مياه الشرب، لهو أمر غير فائق الجمال، حقيقةً.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا