ليلى باحساين في "نظرية الباذنجان": ما تستدعيه استعارة المطبخ

23 نوفمبر 2022
ليلى باحساين
+ الخط -

تقدّم الروائية المغربية ليلى باحساين نصًّا ساخرًا حول الصراعات الصامتة بين الطبقات والأصول، التي تعتمل في المجتمع الفرنسي بعد طغيان العولمة وشركاتِها العملاقة. ففي روايتها الأخيرة "نظريّة الباذنجان" (ألبان ميشال - باريس 2021)، تقترح الكاتبة لقاء خياليًّا بين شخصيات متباينة، سَحَقها ما في هذا المجتمع من مآسٍ وتوتّرات. لكنْ هل علينا أن نرى في هذه الرواية مجرّد مرآة وفيّة عن التباينات التي تنخر النسيج الاجتماعي الفرنسي وعن وضعياتٍ حقيقية فيه؟ أم إنّها تلاعُب بآفاق انتظار القرّاء ومخاتَلة لتوقّعاتهم؟
 
الشخصيّة المركزية في هذا النص هي ديجة، في تخفيف لاسمها العربي: خديجة عبد الإله الكبير، اختَصرته حتى تندمج بسهولة في أوساط الشركات الحديثة. إلا أنها سُرِّحت من منصبها كمحرّرة في وكالة إشهار، فعُرض عليها أن تلتحق بهيئة إدماج مهنيّ، عبر فنّ الطبخ. قبِلت على مضض رغم تجاوز الأحداث مهاراتها السابقة واحترازها من التحوّلات الرقمية. ورغم جهودها لتنجح، ظلّت في روحها نَدبات لم تُنكأ بسبب نظرة الآخر لها وكلماته الجارحة التي تُحيلها، بازدراء، إلى أصولها الأجنبيّة. 

كانت أجواء هذه الهيئة الإدماجيّة دافئة، والعلاقات بين أفرادها لطيفة، بفضل اختيار صائبٍ لملامحهم: فنجد أوّلًا فيرونيك، التي كانت تعمل ممرّضة لكنها باتت اليوم تعيش حالة انهيار عصبيّ، ثم جون، رجل شديد الخجل والانطواء، وجيرالد، مَحكوم عليه بالسجن، جاء يقضي أسبوع سراح، وأخيرًا جوني وهو ممن يؤمن بالنظريّة الغيريّة (Altruisme) ويعارض تمامًا فكرة العَمل. وأما القائد الذي يدير هذا "الجمع الكريم" فهو عاشور الذي كان مقتنعًا بأنّ هذه "الأرواح المنكسرة" لا بّد وأن تستعيد طعمَ الحياة والرغبة فيها عبر التصالح مع روائح الطبخ ومذاقاته.

رواية عن صراع الطبقات وتنافسها في المجتمع الفرنسي

فالقصّة إذن هي لقاء طبائع مختلفة وملامح بشريّة متنوّعة حول الخُضار والبهارات، جَمعها إحساس عميق بهشاشة الحياة، بعد أن تحطّمت آمالُها على صخرة الواقع. وقد لعبت ليلى باحساين على مبدأ المزج بين الطعوم والمذاقات وبين مصائر الشخصيات وماضيها ومراجعها. والمزج بـ "قَدر معلوم" من صفات الروائيين الماهرين، كما أشار إلى ذلك ميخائيل باختين. 

تؤكّد ليلى باحساين استلهامَها هياكلَ شخصيّاتها من تجربتها المهنية الذاتية، فقد سَبق لها أن اشتغلت مستشارة في هيئة إدماج مهني، وهي خدمة حكوميّة توجد بكلّ المدن، وظيفتها إعادة الشباب الذين خرجوا من "المنظومة" إلى الخطّ. ومع ذلك، تظلّ الرواية من صنيع الخيال. جماليّتها فيما تقيمه من "قيم خلافية" تفصل بين كل واحدة منها وتجعلها تتمايز عن الأُخرى وفي التلاعب بما يصدر عنها من خطابات وما يعقد بينها من علاقاتٍ، تآلفًا وتخالفًا. ولهذه الفئات المسحوقة "المُعلَّقة" نصيبُها من النور، فهي تمتلك جوانبَ مضيئة تستحقّ أن تثمَّنَ، بعيدًا عن توظيفات الساسة وإزراء الشركات العملاقة وبرودها.  

"نظريّة الباذنجان" إذن مجرّد "حيلة" بين الكاتبة والقارئ. ففي ظاهرها، هي مجموعة مبادئ سلوكيّة تعين هؤلاء المهمّشين على الإمساك بخيط الأمل. ولكنّها في العمق آليّة روائيّة تساعد في الكشف عن بواطن الشخصيات، وتحليل تطوراتها وعُقدها وأحلامها، لأنّ ما يجري في هذا المطبخ يتجاوز بشكل كبير ظاهِرَه، فليست الشخصيات هي ما تبدو عليه وما يلوح منها بادئَ الأمر، بل هي جُزرٌ وأدغال، وراءَها ما وراءَها من حكاياتٍ وآمال وآلام تعاش في المجتمع الفرنسي المأزوم. وهنا يكمن فنّ التحكّم بجدليّة الظاهر والباطن في تركيبة الشخصيات، المعروفة بثنائيّة: L’être et le paraître ضمن التحاليل البنيويّة. لكن ما الرسالة العميقة لهذه الحبكة؟

غلاف نظرية الباذنجان - القسم الثقافي

هذا النصّ حديثٌ في تحوّلات الهويّة، حيث جالت الكاتبة في ثنايا "الأنا"، عبر الشخصيات المستحضرَة، باحثة في أعماقها وطرق تحدُّدها بين نَظَرات الآخر وأحكامه عليها حين تتحوّل من فضاء إلى آخر. ويتضمن "رسالة" تُندّد بالاحتقار الذي يشعر به أرباب العمل حيال الأعراق الأُخرى، والطّبقات الكادحة التي تعاني الإزراءَ فتنطوي على ذاتها بعد أن تفتقد معنى الحياة وحتّى القدرة على الصراع. 

"نظريّة الباذنجان" مجرّد حيلة بين الكاتبة والقارئ

كما يتناول النصّ نظرة الآخر المتعسّفة التي غالبًا ما تختزل الشخصية الأجنبية في صورة سلبية، لا تعكس الحقيقة قدر ما تعكس هواجس هذا الآخر وتخوّفاته وتوقعاته، وأكثر من ذلك ازدراءه كل ما هو مختلف. ولذا، تركّز هذه الرواية على تصارع "الأصول" والطّبقات، وتنافسها المحموم ضمن فئات المجتمع الفرنسي، بعد منعطف الألفيّة الثالثة وثوراته الرقميّة التي أعادت هيكلة الشركات بأصنافها، فازدادت الحيتانُ الكبرى ثراءً وتفاقَم بؤس الفئات الكادحة. وغدا أرحم ما يُطلب منها اكتساب "مهارات" جديدة مع ما يقتضيه ذلك من هدرٍ للمَهارات الأولى، والانكباب على مهام جديدة قد لا تميل إليها النفس، لكنّها تحت طائلة الفقر والتهميش تضطرّ إلى تعاطيها. 

وهكذا، يشيد هذا النصّ بالبحث عن المعنى الذي يمرّ عبر المطبخ، وما فيه من طعومٍ. ويصيح الغذاء، بوصفه مشاركة وطِلاب لِلذّة الفم، أقرب إلى التجربة الوجوديّة. وهل ننسى أنّ الكاتبة تنحدر من الثقافة المغربيّة الشهيرة بمطبخها الثري ومذاقاتها اللذيذة، وهو ما توظّفه في بناء عالمها المتخيّل، لكون المطبخ استعارة تستدعي كلّ الحواسّ والذاكرات. كما يحيل المطبخ أيضًا على فكرة قبول الآخر وعدم احتقار مطاعمه وازدرائها بتعلّة أنّها "متخلفة" وغير راقية، في نقد مبطّنٍ لموقف الدول العظمى من بقيّة العالم، حيث ترى في مطاعمها مظهرًا لتفوّقها وسَبْقها الحضاري. 

وأما الأسلوب الذي يخترق كل سطر في هذه الرواية فهو أسلوب السخرية المريرة التي تكشف مفارقات الواقع الفرنسي والبون الشاسع بين دعوى الازدهار كقوّة عالميّة والبؤس اليومي الذي تعيشه أغلب الفئات المهمّشة، سخريّة لاذِعة فيها لمسة ألَم، لما آلت إليه الأحوال في هذا البلد، وللأصداء التي يمكن أن توجد في البلدان المغاربيّة، بوصفها مرتهنة في اقتصاداتها بفرنسا.

مثل "الشّيف" الماهر الذي يتقِن فنّ المقادير ويميّز صنوف المذاقات والبهارات والطعوم، توّلت الرّاوية ديجة، بترشيح من ليلى باحساين، الحديث عن هذه الشخصيات والغوص في أعماقها، فكان كل وصفٍ بمقدار ما يضيء على "دُنيا" تلك الشخصيّات وعلى علاقاتها التّقابليّة، في خَلطة شهيّة تطيب بقدر ما تمتزج فيها العناصر. فكان كتابها طبقًا لذيذًا، التقى فيه الأدب بفنّ الطبخ المغربي الذي حضر كمرجعيّة قارّة، متحت منها روعة السرد الذي استعاد البؤس الخفي والجلي لكادِح الطّبقات. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس


بطاقة

ليلى باحساين روائية مغربية تكتب بالفرنسية، من مواليد مدينة سلا عام 1981، وتعيش في مدينة بيزانسون بفرنسا. صدرت لها روايتان: "السماء تحت خطواتنا" (2019) و"نظرية الباذنجان" (الغلاف/ 2021)، وقد لاقتا نجاحاً نقدياً وفي المكتبات. حاصلة على عدد من الجوائز الأدبية؛ من بينها: "الجائزة المتوسّطية (2019) و"جائزة الكتاب الأوروبي والمتوسّطي" (2021). كما نشرت قصصاً قصيرة عديدة في مجلّات أدبية بالفرنسية، في المغرب وفرنسا.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون