كثيراً ما ردّد المحلّل والمنظّر النفسي المصري مصطفى صفوان (1921 ــ 2020)، الذي يُحتفى بمئوية مولده هذا العام، قوله بانتهاء العقدة الأوديبية التي اكتشفها سيمغموند فرويد وهي في طور تراجعها، وبأنّ البطريركية الأبوية التي تحوّلت إلى علاقات ثنائية أو مثلية قد وصلت إلى خواتيمها، فاتحاً الباب على نهاية التحليل النفسي كممارسة واعتبار تنظيراتها جزءاً من تراث الفكر الإنساني.
تنبّه صفوان، في هذا السياق، إلى الدور الذي لعبه أستاذه جاك لاكان (1901 ــ 1981) في النظر إلى الرغبة من خلال ربطها باللاشعور باعتباره نتيجةً لعلاقة الإنسان باللغة، وليس من زاوية دوافع الإنسان النابعة عن مصادر بيولوجية، كما نظّر لذلك سيغموند فرويد. وفي تصوّر لاكان، يصبح اللاشعور أشبه بالمجنون أو الأديب، وهو الذي يكشف عن الحقيقة ويحكم طبيعة العلاقات بين البشر.
في كتابه "الكلام أو الموت: اللغة بما هي نظام اجتماعي"، يحاول صفوان تفسير علاقة الأفراد بالسلطة من خلال التحليل النفسي، حيث هذه السلطة هي التي تصنع القانون الذي يضبط العلاقات بين الناس ويحكم صراعاتهم، وليس الحقيقة مَن تحدّده. ويشير في موضع آخر إلى أنّه لا طائل من التوقّف طويلاً عند العلاقة الوثيقة التي وُجدت في غابر الزمان بين النقود والسوق وبين المعبد، وأنه من الخطأ الاعتقاد بأن الأمور تغيّرت في أيامنا، وهي التي تفرض بالضرورة قيوداً ومعايير يخضع لها المرء.
قال بأُفول التحليل النفسي بسبب انتهاء البطريركية الأبوية
ووفق هذه المنظور، فإن هذه القيود لا ترجع إلى العادة أو التقليد أو التاريخ، بل تمتّ إلى علاقة الإنسان ببُنية باللغة، حيث يوحّدنا الكلام من خلال القوانين التي يخضع لها هو نفسُه، ويحدّد كثيراً من توجّهاتنا وخياراتنا وعلاقات السلطة التي تنظّم الروابط فيما بيننا.
يستعير صفوان عنوان كتابه من تعبير لاكان، "اللاوعي مبنيٌّ كلغة"، الذي قاله بمعنىً تحليليّ نفسيّ، لكنّه ذهب أبعد في شرحه في ضوء تمثّلاته الفلسفية والأنثروبولوجية، وكذلك السياسية، كونه ينطوي على رسالة تتعلّق بتصحيح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتي أشار إليها بتلك "النقطة التي نكون عندها كلنا متساوين، بالرغم من أننا قد لا نكون جميعاً على دراية متساوية بذلك".
وعليه، فإن تغيير النظام القائم يستوجب، بحسب صاحب كتاب "لماذا العرب ليسوا أحراراً؟"، إعادة النظر إلى اللغة التي ننتج من خلالها نصوصاً تحكم الإنسان وحركته التي يمكن ضبطها عبر آليات تأويل تلك النصوص وتطوّرها. من صلب اختصاصه المعرفي، وضع صفوان كتاباً آخر بعنوان "إشكاليات المجتمع العربي: قراءة من منظور التحليل النفسي" (الذي يحاوره فيه عدنان حب الله)، وفيه يرى أن الأنظمة التسلّطية العربية تكره التحليل النفسي لأنها لا تريد أن تتعامل مع الناس بوصفهم متعدّدين متنوّعين، إنما هي تساويهم في نفس القدر من الإخضاع والعبودية.
يؤكّد صفوان أن عجز السلطات العربية وهزيمتها وإخفاقاتها المدوّية في التنمية، قادها إلى استغلال الدين من أجل إضفاء شرعنه على حكمها، وهو ما أدّى في الوقت نفسه إلى ظهور حركات دينية متشدّدة وجدت تعاطفاً لدى الجماهير التي لم تعد الدولة تعني لها مرجعية، لافتاً إلى أن القرن الحادي والعشرين سيشهد مزيداً من استغلال الدين للوصول إلى السلطة.
ويرى أن "القضاء على كل اختلاف وتحويل المجتمع إلى جماعة مؤمنين عمليّةٌ صادرة عن مثالية أشبه بالجنون، بمعنى فقدان كل صلة بالواقع. فالواقع هو أن انعدام الاختلاف بين الناس شيءٌ مستحيل لانعدام المبادئ الشاملة التي يمكن الالتجاء إليها في حل كلّ مشكلة".