ماتياس إينار.. ملوك وفِيَلة وشرق وغرب

27 فبراير 2021
ماتياس إينار في سان مالو، فرنسا، 2009 (Getty)
+ الخط -

"حدّثهم عن المعارك والملوك والفِيَلة، لكن إيّاك أن تحدّثهم عن الحبّ"، بهذه الكلمات يفتتحُ الكاتب الفرنسي ماتياس إينار روايته "حدّثهم عن المعارك والملوك والفِيَلة". يتميّز العمل بلغته وتراكيبه، إضافة إلى موضوعه، وهذه ميزة أعمال إينار بالمجمل، كما في روايات "البوصلة" و"زون" و"شارع اللصوص"، التي نُقلت جميعها إلى العربيّة. إنّها لغة تتّخذ من البيت طريقاً دائماً لها؛ لغة دافئة، يَغمرها الشوق، وتحمل في طيّاتها سحر الشرق وألف ليلة وليلة وعظمة بروست في توظيف الماضي والحاضر والتنقّل بينهما.

في "حدّثهم عن المعارك والملوك والفيلة" (صدرت بالإنكليزية عن Fitzcarraldo Editions في لندن ولم تُترجَم إلى العربية بعْد)، يقودنا إينار في رحلة شائقة ما بين إيطاليا والسلطنة العثمانية، ويحكي لنا قصّة ميكيلانجيلو عندما تلقّى دعوةً رسميّة من السلطان بايزيد الثاني لرغبته في بناء جسرٍ فوق خليج القَرن الذهبي، الواقع في إسطنبول اليوم. نرافق ميكيلانجيلو في رحلته التي تمتدّ لأكثر من ثلاثة أشهر في القسطنطينية، ويوظّف إينار الفصول بشكلٍ سَلِسٍ وسهْل للقراءة، في سردٍ ممتلئ بالتاريخ، هو مزيج بين الشرق والغرب. نصّه النثري يتقدّم وفق إيقاع شعريّ عميق، وبلغةٍ تُمسك بالقارئ ولا تغادره، باعثة الحياة في شخصية الفنّان الإيطالي.

تشكّل روايته الأخيرة استثناءً، حيث تجري كاملةً في فرنسا

نلاحظ تمكّن إينار من تاريخ المنطقة، حيث يتنقل بين إيطاليا والقسطنطينية ببراعةٍ لافتة. كذلك تُطلعنا الرواية، بدقّة، على مخطّطات ميكيلانجيلو وصور الرخام والمباني والجدران المزخرفة، وعظمة قصر السلطان العثماني. ومثل بقية روايات الكاتب الفرنسي، تبدو "حدّثهم عن المعارك والملوك والفيلة" أشبه بالكولّاج، حيث تتجاور، داخل قالب واحد، صورٌ مختلفة المنابع. نقع على الأمر نفسه في "البوصلة"، حيث يحكي عن الشعر والأوبّرا والتاريخ والجغرافيا والحبّ والذكريات في فقرة واحدة مكثّفة. تتميّز هذه الرواية الأخيرة عن بقيّة أعماله من حيث المبنى، إذ إنّنا نرافق بطلها، فرانز ريتر، في طوافه العالَم، شرقاً وغرباً، عبر ذكرياته في شقّته في فيينا. 

رواية اينار

لاقت روايات الكاتب الفرنسي نجاحاً لافتاً في فرنسا وخارجها، بفضل أسلوبه السرديّ، الذي يأخذ من ملامح الشرق ومن ملامح الغرب في الوقت نفسه. ففي "البوصلة" (جائزة "غونكور" الفرنسية لعام 2015)، نستطيع أن نصغي إلى طرب أم كلثوم خارجاً من الصفحات، وإلى صوت إديت بياف الأنيق، ونرى إسطنبول وجامع السلطان أحمد وآيا صوفيا، ونمشي في شوارع أخبرنا عنها أورهان باموك وجمال ثريا، ونسمع أصوات الليل.

ليس ماتياس إينار بحاجةٍ لإثبات قدراته في ما يخصّ تاريخ المنطقة وموسيقاها، اللذين يعود إليهما في كلّ عمل جديد. ويعرف أيضاً بعضاً من لغاتِها، هو الذي درس العربية والفارسية في "معهد اللغات والحضارات الشرقية" في باريس. ربما كانت روايته الأخيرة، "المأدبة السنويّة لأَخَوية حفّاري القبور"، الصادرة بالفرنسية حديثاً (لم تتُرجم، بعد، لا إلى العربية ولا إلى الإنكليزية)، استثناءً وحيداً في مسيرته، حيث يبتعد عن عوالمه التي تعوّدناها، بين سورية وتركيا وإيران، ليتناول حكايةً تجري في مسقط رأسه، إقليم دو سيفر، غرب فرنسا.


* كاتب من فلسطين

المساهمون