استمع إلى الملخص
- **تشويه التراث في العقل الحديث**: يناقش الكتاب كيف ينظر العقل الحديث إلى التراث كعائق أمام التقدم، ويستعرض مواقف مفكرين مثل جون رولز وجون لوك وجان جاك روسو حول الحرية والمساواة.
- **تحليل التراث والحرية**: يستعرض الكتاب موجات الليبرالية وصراعاتها الحالية، ويحلل التراث من خلال أعمال مفكرين مثل إدموند بيرك وأغسطينوس، ويختتم بالدعوة إلى "النزعة المحلية الإنسانية" كبديل أكثر ملاءمة للحرية الفردية.
ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "حدود الليبرالية: التراث، والنزعة الفردية، وأزمة الحرية" لأستاذ العلوم السياسية والباحث الأميركي مارك ميتشل، بترجمة الباحث المصري محمد عبده أبو العلا.
الكتاب الذي صدر باللغة الإنكليزية عام 2018، وتكمن أهميته بالمقاربة الجدلية الجديدة والطريفة والرصينة لإشكالية علاقة التراث بالحداثة، في ظل إخفاقات الحداثة يوماً بعد يوم؛ مقاربة تعتمد النظر إليها باعتبارها إشكالية عامة لجميع المجتمعات الحديثة، وذلك ضمن ما سمّاه "النزعة المحلية الإنسانية"، بوصفها طرحاً بديلاً ثالثاً يتفادى عيوب النزعة القبَلية المتحجّرة لسياسات الهوية، المحرِّضة على العنف والمتّسمة بالشك في الآخَر وكراهيته، والنزعة الكونية السياسية والثقافية المعادية للخصوصيات والتراث والماضي، ويرى االمؤلّف فيهما عدواناً على الحرية الفردية والمساواة، في حين تقدِّر نزعة ميتشل الإنسانية التنوعَ الثقافي وتراثياته، وتقاوم التجانس في الليبراليات الحديثة، وهي ليست مدفوعة بخوف الآخر وكراهيته، بل تدرك الاختلافات الحتمية في الطبيعة الإنسانية التي يتقاسمها البشر.
ويسعى الكتاب للتذكير بحقائق أساسية، اقتداءً بقول صمويل جونسون إن الناس في حاجة إلى التذكير أكثر من حاجتهم إلى التعليم، فالناس يسيرون على غير هدى، ويشعرون بالمنعطفات الخاطئة أو الخطرة بحسهم الباطني لا غير، وفي وقتِ تذكيرهم سرعان ما يعترفون بأنهم كانوا على دراية بالجديد الذي تلقوه طوال الوقت؛ وبناء عليه، فهم "بلا عذر" كما ذكر القديس بولس، لكن شعورهم بالمسؤولية يمنحهم الأمل، وبموجبه يختارون تذكُّر ما نسوه طويلاً، أو الخضوع لأمر رفضوه تكراراً.
ركّز الكتاب على بحث سمة في العقل الحديث هي تشويه التراث
وقد ركّز الكتاب على بحث سمة في العقل الحديث هي "تشويه التراث"، تنظر إلى الماضي باعتباره مكاناً معتماً مُغرِقاً في الجهل والتخلف، يسكنه بؤساء وتعساء، وإلى المستقبل مكانًا مشرقاً مبشراً بالأمل، يسكنه أفراد سعيدون حكماء استطاعوا الانفكاك عن ربقة الماضي، وذواتهم مستقلة وحرة إلا مما تختاره، وحرية الاختيار هذه شكّلت عُملة العالم الحديث للتقدم نحو التحرر من قيود التراث والعرف والطبيعة. هذه الذوات هي المَثل الأعلى لما أصبح يسمى "الليبرالية" في عصر يُعتَزّ فيه بالحرية، وينظَر إلى عوائقها بوصفها إهانة.
كما يتوقف الكتاب عند جون رولز، عميد الفكر الليبرالي في القرن العشرين، حيث يرى أن موقفه حول المساواة "افتراضيّ بحت"، يمكن أيّ عاقلٍ دخول هذا الموقف في الخيال، ويخيم فيه على الأفراد "حجاب من الجهل" بمكانتهم المجتمعية والطبقية وقدراتهم من الذكاء والقوة وأمثالهما، وبـ "بالموقف الأصلي" و"حجاب الجهل" معًا يصبح الجميع متساوين وعقلانيين وأحرارًا في الاختيار، وفيه أيضًا ممكنٌ تجريد الأشخاص من خصوصيات التاريخ والثقافة والانتماء والطبع وإبقاء هوية العقل المستقل، فجوهر الهوية الإنسانية هو القدرة على الاختيار المتوافق مع العقل.
أما جون لوك، الذي يُنظر إليه باعتباره معتدلاً؛ لأنه بقي مخلصاً لتراث المفكرين المدرسيين الأخلاقي في القرون الوسطى، الممتد إلى شيشرون وأرسطو، فقد استمر في تأكيد نظرة تقليدية للمجتمع والأخلاق لا يخضع الأفراد فيها باعتبارهم أحرارًا ومتساوين إلا للقانون الطبيعي، ونظراً إلى مخاطر هذا القانون يتنازلون عن التعاقد لتشكيل مجتمع آمن عن بعض حقوقهم (كالحق في معاقبة الجناة) للسلطات، ويخضعون لقرار الأغلبية. ويرى مؤلف حدود الليبرالية ميتشل، أن منظورات التفكير الليبرالي "اللوكي" (نسبة إلى لوك) موجودة لدى الشعب الأميركي: منظور موافقة المحكومين، ومنظور اعتبار الأفراد أحرارًا ومتساوين، ومنظور شرعية حكم الأغلبية، وغيرها، لكن الأميركيين يتميزون بتشكيكهم في تراث الماضي، ويناضلون لغد أفضل بالعمل الشاق فقط، وحتى مع الظروف الصعبة لا تتوق نفوسهم إلى حكمةٍ ما في الماضي. وبرغم هذا يؤكد ميتشل هشاشة البناء المؤسسي الأميركي اللوكي، ويطرح السؤال الاستجوابي التالي: "ما الذي يمنع الأغلبية من قمع الأقلية؟"، معتبرًا وقوع المظالم الجسيمة مسألة وقت، وأن العقد الاجتماعي يتحول وسيلة للقمع بتوحيد الأفراد قواهم وتشكيل أغلبية.
يضطلع الكتاب بتحليل للحرية مؤسَّس على التراث لدى إدموند بيرك وأغسطينوس
ومن جهته، يتحدث جان جاك روسو عن "رابطة" تحمي كل عضو فيها ومصالحَه، وتبقيه حرّاً في خياراته رغم اتحاده بالمجموعة (المجتمع)، لكنه بخلاف لوك، الذي يقول بالتنازل عن حق العقاب فقط، يدعو إلى مساواة يتنازل فيها الفرد عن جميع حقوقه لكل أعضاء المجموعة، وبذلك يَكسب ما يخسره متمثّلًا بقوة تحافظ على ما لديه هي قوة الأفراد مجتمعين، وهم الحاكم في مخطط روسو، وحكمهم على غيرهم هو على أنفسهم في الوقت عينه، وبهذا المفهوم الروسوي تصبح السلطة غير محدودة وغير خطرة في آنٍ، ولا يحق السؤال عمّن يسنُّ القوانين طالما أنها من صنع الإرادة العامة، ولا عن جورها لأنه لا أحد يجور على نفسه، ولا عن جمع الفرد بين حريته والخضوع للقوانين؛ فالأخيرة مدوَّنات لإرادته.
يستعرض الكتاب موجات الليبرالية؛ الأولى (المعتدلة) وقد بدأت بأفراد يتَّحدون لإضفاء الشرعية على ممارسة السلطة، ويكونون بلا تأملات غيبية أو معتقدات دينية مثيرة للفُرقة، ويبدؤون بالبديهي، مثل الطبيعة الإنسانية الفردية غير الخاضعة لأي سلطة، مع رفض صريح لسلطة التراث في التعامل مع الشؤون الإنسانية لمصلحة اتِّباع نهج عقلان، والموجة الثانية استُهِلّت بنزعة هوبز الذرية الفلسفية، المُدرِكة بعمق وشمولية مبدأ الاستقلال الذاتي والاختيار الحر للفرد.
ويلفت إلى صراعات يشهدها العالم اليوم بين الذين يدافعون عن صيغة من النزعة الكونية الليبرالية والمنتصرين لفكرة التراث، وبين حركات الحكم الذاتي المحلي والدولة الوطنية من جهة، والدول الوطنية والكيانات العابرة للحدود من جهة أخرى، نقاشاتٍ أخلاقيةً وسياسية تكشف عن انقسامات فلسفية عميقة، كالتي تدور حول الـ "بريكسيت"، وقد تكفّلت التكنولوجيا بإنقاذنا من أزماتنا، وضمان التقدم غير المحدود السعادة للبشرية، والزواج والجنس والهوية الجنسانية، والحدود الجغرافية الوطنية، وغيرها، وهو جدل لن ينتهي قريبًا.
وتضمّن الكتاب الكثير عن التراث، وكانت بعض المقاربات في التعامل معه أكثر إقناعاً من غيرها، وسوف يقضي قارئه وقتاً طويلاً في تقصي أوجُه الشبه والاختلاف بينها. وقد استخدم هذا العمل ثلاث مهمات مختلفة للتراث؛ أولها، لوصف مفهوم معرفي يمثل عنصراً ضروريّاً في عملية المعرفة، وثانيها، للإشارة إلى فكرة تشترك مع "التراث الغربي" الطامح إلى العالمية، وثالثها، للإشارة إلى تراثيات محلية محدودة ومنقولة تفقد جوهرها إذا أرغِمت على الاندماج في نمط عالمي.
ويضطلع الكتاب بتحليل للحرية مؤسَّس على التراث لدى إدموند بيرك وأغسطينوس يمكن من خلاله تجنّب الأخطاء الخطيرة التي ارتكبتها الذات الليبرالية، ثم يختم بالدعوة إلى ما سمّاه "النزعة المحلية الإنسانية" التي تتجنب الاستسلام للنزعة الكونية وسياسات الهوية على حد سواء.
يركز الفصل الأول على ملابسات الهجوم على التراث والحط من قيمته، بدايةً من مارتن لوثر، ثم بمنهجية أكبر وأكثر شمولًا مع فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت.
وتحاول فصول الكتاب الثاني والثالث والرابع تفنيد فكرة أن سبيل التقدم هو رفض التراث، مستعينةً بثلاثة من مفكري القرن العشرين هم: أوكيشوت، وماكنتاير، وألسدير، دحضوا بطرائق مختلفة الأفكار البيكونية - الديكارتية المعادية للتراث، الذي يضطلع بدور جوهري في العملية المعرفية، واستبعاده يؤدي إلى خطأ في تصورنا للذات العارفة.
أما الفصل الخامس (الأخير) فيوظِّف المعارف التي كرّستها أعمال أوكيشوت وماكنتاير وبولانيي لتطوير تعريف عملي للتراث، وينتقد الليبرالية لتناقضها نظريًّا وإخفاقاتها عمليًّا، ثم يرسم "خطوطًا عريضة" لبديل من الليبرالية أكثر ملاءمة للتراث، ولتصور أكثر ملاءمة للحرية الفردية.
ثم تستعرض الخاتمة صيغة من النزعة المحافظة تختلف عن السائدة اليوم. فبحسب المؤلف، أصبح مصطلح "محافِظ" "مهترئًا، وصار يطبَّق على نحو غير دقيق، وبهذا كانت الخاتمة محاولةٌ لإبراز ميتشل النزعة المحافظة كما يراها هو، لا كما هي موجودة الآن.