ماريون إنغرام كاتبة يهودية من آخر الناجين الأحياء من "الهولوكوست"، وُلدت لأمّ يهوديّة وأبٍ مسيحي، وقضت طفولتها في مدينة هامبورغ الألمانية إبّان فترة حُكم النازية. كتبت عن تجربة طفولتها في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، في عدّة كُتب، منها: "أيادي الحرب"، و"قصّة الصبر والأمل من ناجية من المحرقة"، و"أيادي السلام"، و"نضال ناجية من المحرقة لإحلال الحقوق المدنية في الجنوب الأميركي".
تتذكّر إنغرام ليلةً من سنة 1943، التي اشتعلت فيها النيران في مدينة هامبورغ، بعد الهجوم الجوّي الأعنف في التاريخ من قبل قوّات الحُلفاء، وكيف مُنعت وعائلتها من الاحتماء بالملاجئ لكونها يهوديّة. ولحُسن حظّها، كان هذا سبب نجاتها؛ إذ احترقت الملاجئ بمَن فيها.
بعد هزيمة النازيّة، وفي عُمر السابعة عشرة، هاجرت إنغرام إلى أميركا لتكتبَ عن طفولتها الصعبة، وما عانته من تفرقة وعنصرية في ألمانيا النازية، وتقوم بعد ذلك بالكثير من العمل التطوّعي والتوعوي في أميركا وألمانيا وغيرهما من البلدان، لتوعية الأجيال الجديدة على ضرورة التعاون المجتمعي في الوقوف أمام التفرقة والعنصرية.
ما عشتُه في طفولتي يشبه تماماً ما يعيشه أطفال غزّة
وانسجاماً مع هذه الرؤية، ووفاءً لذكرى ضحايا المحرقة، شاركت الكاتبة، وهي في الثامنة والثمانين، في عشرات الوقفات أمام "البيت الأبيض" للتضامُن مع الشعب الفلسطيني، ورَفْع الصوت بالوقف الفوري لجرائم الإبادة الجماعية في غزّة، مؤكّدةً أنّ ما عاشته في السنوات العشر الأُولى من حياتها يُشبه تماماً ما يعيشه اليوم أطفالُ فلسطين في غزّة.
ويبدو أنّ هذه المقاربة لم تعجب المنظّمين للفعاليات الدوريّة التي تقوم بها الكاتبة الثمانينيّة في ألمانيا منذ سنوات، ليُرسلوا إليها إخطاراً بإلغاء كلّ الأمسيات المقرَّرة لها في مدينة هامبورغ هذا الشهر، وتأجيلها مبدئياً إلى أيار/ مايو المُقبل، وخصوصاً جولتها المقرّرة في ثماني مدارس بالمدينة التي نشأت فيها.
في حديث مع تلفزيون "الديمقراطية الآن" في نيويورك، أبدت صاحبة "أيادي السلام" استغرابها الشديد من هذا الإلغاء، وكيف عجز المنظّمون، بمن فيهم الأساتذة الذين كان من المفترض أن تلتقيهم، عن تسمية سبب واحد يبرّرون به قرارهم، مع تشديدهم غير المُبرَّر على أنّ هناك خطراً أمنيّاً عليها في ألمانيا لـ"ارتفاع مستوى معاداة الساميّة في الأيام الأخيرة"، وفق تعبيرهم.
بل إنّ أكثر ما أثار استغرابها، أنّ أحد المنظّمين أخبرها أنّ من المُمكن أن يستخدم "حزب ألمانيا البديل"، وهو حزب النازيّين الجدُد، صور نشاطاتها في أغراض "بروباغندا". وحول هذا الموضوع تقول إنها تُحاول تخيُّل كيف يُمكن لهذا الحزب أن يستخدم صورتها ضمن دعايته العنصرية، ولكنّها لا تصل إلى أيّة نتائج!
في الختام، أبدت إنغرام استياءها الشديد من الأسلوب الذي تتعامل به الدولة الألمانية مع الأحداث الجارية، خصوصاً أنّ ألمانيا كانت تُحاول أن تبدو مثالاً لدُول العالَم في طريقة تعامُلها مع التاريخ، والاعتراف بالجرائم والأخطاء المُرتكبة وتدريسها بانفتاح ووعي. ورأت في السياسة التي تتّبعها ألمانيا، اليوم، ومعها الولايات المتحدة، بإسكات أصوات الشعب الفلسطيني - وبعد مقتل أكثر من عشرة آلاف طفل فلسطيني - تصرُّفاً فادحاً، يذكّرها بشكل مخيف بالأجواء التي كانت تعيشها عائلاتها في أواخر الثلاثينيّات في ألمانيا.
هكذا، وبينما تُصرّ المؤسّسات الألمانية على أنّ المحرقة جريمة ليس لها مثال في التاريخ، ولا تصحّ مقارنة أو تشبيه أيّ عمل إبادي مهما كانت فظاعته بفظاعة جريمة المحرقة، تخرج هذه السيّدة التي عانت وأسرتها من النازيّة ونجَت من "الهولوكوست"، لتقولَ إنّ هذه المقارنة وهذا التشبيه أداةٌ مهمّة جدّاً لمَنع تفاقُم الأمور ووضع حدٍّ للاعتداءات والجرائم أيّاً كان منفّذها أو الصفة التي يُبرز بها نفسه.
ليس على الإنسان أن ينتظر الجريمة الكُبرى لتحلّ بالعالَم حتى يصحو لفداحتها، بل عليه أن يُجنِّد كلّ ما يستطيع لمنع حدوثها، بهذا فقط نكون قد تعلّمنا من التاريخ، وبهذا فقط تستطيع ألمانيا إثبات نجاعة سياسات "التغلّب على الماضي" المعلَنة من عقود.