في زيارتي الأولى إلى آرل تعرّفت على هيربرت نيسان، الكاتب والناشر البلجيكي صاحب دار "آكت سود"، التقيتُه في حفل الاستقبال الذي كان يُقيمه جاك تيريو مدير "المعهد الدولي لمترجمي الأدب"، في بداية كلّ دورة جديدة لربط الصِّلة بين المُترجمين القادمين من بلاد بعيدة ونُخبة آرل الثقافية. وجاك تيريو كاتبٌ ومسرحيّ ومُترجم الرواية البرازيلية الحديثة.
وعرفتُ زوجته كريستين العجوز الحزينة المتروكة، فقد مال هيربرت إلى السكرتيرة الغضّة الشباب كما تقول العرب. كانت زوجتُه تتردّد مع صديقاتها على صالون المعهد في ذلك الشتاء البعيد من سنة 1990، وكانت لنا أحاديث وقد عرفت عن طريقها مشاركتها في تأسيس دار "آكت سود"، وأنّها هي التي أشرفت على تصميم كتُب الدار الشديدة التميّز: اختارت صنف الورق الضارب إلى صُفرة، وخطوط الطباعة "غارامون"، وشكل الكتاب المستطيل الذي عُرفت به الدار.
كنتُ مُعجباً بإنجاز نيسان ككاتب وناشر رائد، ورجل تقدّمي ذي أُفق إنساني، إلى أن لقيتُه في حفل الاستقبال ذاك البعيد في مدينة آرل؛ ثم قرأتُ يوميّاته التي تنضحُ بحسٍّ صهيوني يتنافى مع كلّ هذا... وهذا شأنُ كثير من الكُتّاب والمثقّفين في الغرب تجدُ الواحد منهم تقدّمياً ديمقراطياً "لايكيّاً" حداثياً، وتكتشف تالياً أنّ كلّ هذه الملامح والصفات ليست سوى ديكورٍ وتمويه خارجي.
نُصغي إلى صمت ضاجٍّ، صمت إجرامي إزاء ما يقع في غزّة
وما إن ينتقل الحوار إلى الكيان الإسرائيلي، وإلى الأيديولوجيا الصهيونيّة، حتى ينقلب هذا الكاتب أو الشاعر المُشبع بأفكار فولتير على كلّ مبادئه، في تناقض فاضح ليتحوّل إلى رجل ما قبل حداثي، يُؤيّد دولة دينية استعمارية تتّخذ لها اسم نبيّ. دولة تُمارس التطهير العِرقي ضدّ الفلسطينيّين، وتهدم البيوت على رؤوس أهلها، وتقتل الأطفال بالفوسفور الأبيض، من دون أن يرفّ له جفنٌ أو يشعر بأيّ تناقض في مواقفه، بين درس فولتير والتنوير والعقلانية والعلمانية، الذي يريد تسويقه لدى تلاميذ فرنسا من الفرنكوفونيّين، وبين عقيدته في هذه الدولة الدّينية.
هكذا كان هيربرت نيسان، وهكذا كان بعضٌ من شعراء ومنظّمي "مهرجان لوديف"، ثم مدينة بول فاليري سات. واليوم كشفت غزّة عن وجوه كثير من المثقّفين من أمثال الألماني يورغن هابرماس.
واليوم نُصغي إلى صمت ضاجٍّ، صمت إجرامي إزاء ما يقع في غزّة. هكذا صمت كثيرٌ من أساتذة ومُترجمي الأدب العربي للفرنسية، الذين يُستقبلون في العواصم العربية كـ"أصدقاء لنا"، وهذا ليس بالأمر الغريب لقد انطوى عصرُ القامات الاستشراقية الكبيرة من أمثال لويس ماسينيون، الذي كان مُعادياً للصهيونية وكارل بروكلمان وهنري كوربان، أو مكسيم رودنسون الذي رغم يهوديّته كان مُعادياً هو أيضاً للصهيونية. وحلّ محلّهم بعضُ المُترجمين من أساتذة الجامعات الفرنسية والبلجيكية، ممّن كشفوا لنا أن هناك شعرًا زنجيًا عربيًا، كما لو أن الأدب العربي أدب عِرقي.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام