في رأيي، لن تتوقّف دهشتي في مصر حتى لو أقمتُ فيها لثمانية أسابيع وليس لثمانية أيام فقط. كلُّ شيء كان يثير انتباهي في شوارع القاهرة؛ الناس والحارات الضيّقة والشوارع الكبيرة والبائعون. تجوّلتُ في الأسواق وكأنها متاحف، ورأيتُ التمر الطازج وأنواعاً لم أرها من قبل من الفواكه والخضروات. رأيتُ أيضاً داخل الأقفاص في الأسواق أرانب وحَمَاماً. وعندما تطلب حمامة من البائع، يقطع رأسها على الفور ويجهّزها لك. وفي بعض البيوت يُرَبُّون الحمام في أقفاص، حتى أنّهم يتركون أحياناً الأقفاص مفتوحة، ويطير الحمام قليلاً ثم يعود إلى القفص. وهذا الحمام ليس للزينة بالتأكيد، ولكن للأكل. وهو مثل حَمَام الجوامع عندنا، لكنهم لا يذبحونه عندنا ويعتبرون ذبحه حراماً.
توجد في القاهرة تناقضات مخيفة. وهناك فرق كبير بين ما تراه بعينك اليمنى عمّا تراه اليسرى. فوق لوحات الإعلانات يكتبون "إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً"، وتوجد أدعية كثيرة فوق تلك اللوحات أيضاً.
في القاهرة تنتشر سيارات الأجرة بشكل كبير، حتى أكثر من إسطنبول. سيارات كبيرة وصغيرة بأشكال مختلفة، لكنها تشترك في اللون الأسود، ويُكتب عليها "أجرة القاهرة". لكنهم ينطقون الجيم بطريقة مختلفة عن العرب، وفي رأيي، تُحكى العربية في القاهرة بأجمل طريقة. ومثلما نعلّق داخل سيارات الأجرة في إسطنبول لوحة كُتب عليها "ما شاء الله"، يعلّق المصريون "توكلنا على الله". ومثلما يحدث عندنا تماماً، نجد السيارات تملأ الأماكن التي كُتب عليها "ممنوع الانتظار". نعم، كلُّ شيء مثل تركيا تماماً، ولكن لماذا تدهشني القاهرة هكذا؟
عذاب الضمير
يجب أن يشعر الإنسان بعذاب الضمير كلّما فكّر في فقراء مدينة ما. وبرأيي، لو أنّ هناك شخصين أحدهما في إسطنبول والآخر في القاهرة ويحصلان على نفس الراتب، فإنّني سأشعر بعذاب ضمير تجاه الذي في مصر. الفقر في مصر مرعبٌ للغاية.
نعم، كلُّ شيء مثل تركيا تماماً، ولكن لماذا تدهشني القاهرة هكذا؟
جلستُ في مكان بجوار النيل، وشاهدتُ الأطفال وهم يحاولون صيد العصافير، وفكّرت فيهم وأنا أشعر بعذاب الضمير.
ثم لاحظت وجود شيء، وكنتُ أظن أنّها قطّة ثم اكتشفت أنه طفل. كان حافياً ونحيلاً، ويرتدي جلباباً متَّسخاً. زحف حتى أسفل شجرة وجهزّ نبلتَه ليصطاد العصفور، ثم جاء أربعةُ أطفال من بعده. وفي الأساس، هذه ليست لعبة أطفال، إنهم يصطادون العصافير ليأخذوها إلى بيوتهم للطعام.
تُعتبر الفاصوليا البيضاء مع الأرز الأكلة الشعبية في تركيا، أمّا الفول فهو الأكلة الشعبية عند المصريّين. يشترون الفول بقرش لأكل اليوم. ويُباع الفول على عربات في كلّ الشوارع تقريباً.
ماذا جلبت اشتراكية عبد الناصر للمصريّين؟ سنحكي عن هذا لاحقاً، لكنّني أودّ أن أقول الآن إنّ العامل هنا يحصل على 25 قرشاً في اليوم على الأقل (خمس ليرات تركية). وهذه النقود جيّدة قياساً بمصر ما قبل عبد الناصر، إلّا أنّ هذا الأمر يبّين لنا سبب شبع بعض المصريّين بقرش فول (سنة 1966).
كيف خدعوهم؟
من أجل فهم ما جلبته الاشتراكية للفلّاح المصري، يجب أن نعرف أوّلاً كيف كان الفلّاح يُخدع قبل عهد عبد الناصر. لقد خدعوا الفلّاح التركي منذ مئات السنين، لكنهم لم يخدعوا الفلّاحين هنا فقط، لقد أخذوا منهم كلّ شيء. لم يكن بوسعهم في تركيا أن يخدعوا الفلّاحين لهذا الحدّ، لأنّ الفلّاح التركي كان يُجنَّد في الجيش أثناء الحرب، ولذلك لم يُخدع بنفس القدر الذي خُدع به الفلّاح المصري.
لم يُخدع الفلّاح التركي بنفس القدر الذي خُدع به الفلّاح المصري
سأشرح لكم بشكل ملموس لكي نعرف حجم الاستعمار في مصر وتركيا. إذا قلتُ لكم أن تذكروا لي أكثر خمس شخصيات ثريّة في تركيا، فسوف تقولون نفس الأسماء تقريباً، وإذا ذهبنا إلى أيّ بيت من بيوت هؤلاء الأثرياء، سنجد بيوتهم جميلة ومعيشتهم فاخرة، لكننا لن نندهش كثيراً في بيوتهم، ولن نجد فروقاً شاسعة بين حياتهم وحياتنا. أمّا في القاهرة، فسوف تجدون القصور تملأ ضفاف النيل، وبرأيي هذه ليست بيوتاً، إنها قصور. إنهم يتحدّثون هنا بالعملة الإنكليزية، وعندما تدخل إلى أحد هذه القصور، سيبدأون في الحديث عن أسعار أغراض البيت بالعملة الإنكليزية. ستندهشون كثيراً هنا. لا أدري إن كنتُ قد استطعتُ أن أشرح لكم عن هذا الأمر أم لا. عندما أخذوا كلّ شيء من الفلّاح هنا، نسوا أنه إنسان.
لقد أعادت اشتراكية عبد الناصر للفلّاح كرامته قبل كل شيء. وقد أخذ ناصر من الأغنياء الذين يمتلكون مئات الفدادين بجوار النيل ووزّعها على الفلّاحين، حيث أعطى خمسة فدادين لكلّ فلاح. للمرّة الأُولى في تاريخ الفلّاح المصري المسكين، صار يربح أربعمئة أو خمسمئة جنيه في العام، وصار يعمل في أرضه. ويقولون عن هذا التحوّل في مصر "اشتراكية". هل هي اشتراكية أم لا؟ هذا موضوع آخر قابل للنقاش. وحسب فهمي للاشتراكية، فإنها ليست هذه التي في مصر، لكن قوّة عبد الناصر كلّها جاءت من توزيعه للأراضي الزراعية على الفلّاحين.
* فصل من كتاب "الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق" الحاصل على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" (2021 - 2020) في فرع "الريبورتاج الرحلي المترجم - الرحلة الصحافية"، بترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، ويصدر قريباً.