توقّف الآثاري والمؤرّخ الفلسطيني محمد مرقطن في محاضرته "نحو تطوير سردية عربية- فلسطينية لدراسة تاريخ فلسطين القديم" ــ التي نظّمتها افتراضياً، أمس الأحد، "مكتبة الأرشيف" و"المركز العربي للأبحاث ودراسة التنمية" في عمّان ــ عند علم الآثار الاستعماري؛ علم الآثار التوراتية أنموذجاً، والسردية التوراتية – الصهيونية، والسردية العربية الفلسطينية، وذاكرة المكان كمنهجية علمية لتطوير سردية عربية – فلسطينية لدراسة تاريخ فلسطين، إلى جانب مدخل أساسي لكتابة تاريخ فلسطين القديم.
أشار المحاضر إلى أن نشأة علم الآثار الاستعماري في أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر ارتبطت بصعود الدول الاستعمارية، كما ارتبطت بالمسألة القومية حيث بدأت التحرّيات الأثرية في مختلف البلدان من أجل تثبيت شخصيّتها القومية، وتمّ الأخذ بهذا النمط في بقية العالم، وتمثّلت أبرز أهدافه بإخضاع مصادر المعرفة والتراث لسلطة المستعمِر والتحكم بها، وجلب اللقى الأثرية وملء المتاحف الأوروبية بها، وظلّت اهتمامات أهل البلاد الأصلية هامشية، إذ هُمْ عبارة عن مادة مختبرية للبحث العلمي، ثم تمّ تجهيز فِرقٍ من علماء الآثار المحليين في الدول التي استقلّت لتنفيذ مصالح المستعمٍر بعد استقلالها.
كما أوضح مرقطن أن السردية التوراتية – الصهيونية قامت على نبوءة العهد القديم من الكتاب المقدّس، وتثبيت المقولات الصهيونية حول فلسطين كأرض خالية من السكّان، واستند الغربيون في ذلك إلى خارطة متخيّلة لفلسطين تحمل أسماء توراتية تمّ وضعها في جميع الأطالس الغربية، وأن أهل فلسطين لا علاقة لهم بتاريخ بلادهم، ومن أبرز رموز هذه السردية عالم الآثار الأمريكي وليام فوكسويل أولبرايت (1891 – 1071)، الذي آمن بأن ولادة "إسرائيل" هي تحقيق لرؤية إلهية، لافتاً إلى تأسيس مجموعة معاهد ومؤسسات غربية في القدس منذ التاسع عشر، لعبت دوراً أساسياً في تطوير السردية السهيونية في ما يخصّ فلسطين.
تعتمد الذاكرة الثقافية الفلسطينية على تراكم المعرفة والخبرة والذكريات التي يتمّ تمريرها شفوياً أو مجازياً أو كتابياً
ونبّه إلى أن نظرية "نقل الحكم" التي تعود إلى القرون الوسطى استُمدّت من سفر دنيال في العهد القديم، حيث ينظر بحسبها إلى التاريخ على أنه تسلسل خطّي بحيث تنتقل فيه الحضارات من بابل وآشور ثم فارس فاليونان فالرومان وصولاً إلى النهضة الأوروبية دون المرور بحضارة عربية. بالمقابل، ميّز بين سردية عربية فلسطينية شعبية تتضمّن رؤية ضبابية مليئة بالقصص الفولكلورية ومعرفة محدودة بتاريخ فلسطين، وأهم شعاراتها أن "العرب الكنعانيين" سابقون على اليهود، وهي سردية غير مفيدة حيث أن الشعب الفلسطيني هو خلاصة كلّ الشعوب التي عاشت في فلسطين، وبين سردية عربية فلسطينية خرافية بدأها كمال الصليبي ويتزعّمها الآن فاضل الربيعي، وتنمّ عن جهل في التاريخ وتفريغ من محتواه العلمي.
أما السردية العربية الفلسطينية العِلمية، فاستعرضها مرقطن بالاستناد إلى مصطلح الذاكرة الجماعية والذي يتمحور بشكل أساسي حول أماكن الذاكرة الفلسطينية، وأهمها المدن والقرى وخلق صلة بين الماضي الثقافي والظروف الاجتماعية الحالية في فلسطين، مبيّناً كيف ساهم عالما الدراسات المصرية يان أسمان وزوجته أليدا أسمان بتطوير نظرية الذاكرة الجماعية، من خلال تناول الذاكرة الثقافية والذاكرة التواصلية.
وأشار إلى أن الذاكرة الثقافية الفلسطينية تعتمد على تراكم المعرفة والخبرة والذكريات التي يتمّ تمريرها شفوياً أو مجازياً أو كتابياً، حيث تتشكّل عبر التاريخ من التراث المادي كالآثار والكتابات والتراث غير المادي كالعادات والتقاليد، وأهمّ ما يميّزها بأنها مدونة طويلة الأمد من إنتاج جماعة بشرية محدّدة بهدف إعادة إنتاج هويتها. وهي تنقسم إلى مخزون الذاكرة الذي يتضمّن المصادر والسجلّات والبيانات، ممثّلةً الأرشيف الأساسي للحياة الثقافية للشعب الفلسطيني، والذاكرة الوظيفية هي ذاكرة نشطة وتحتوي على مجموعة صغيرة من الرموز والأدوات عبر ما يختاره المجتمع من مخزون الذاكرة وتقاليده الثقافية من الماضي ويوظّفها لاحيتاجاته الحديثة مثل العرس الفلسطيني أو موسم النبي موسى...
تتراكم أسماء المدن والقرى الفلسطينية في طبقات كنعانية وآرامية ويونانية ولاتينية وعربية إسلامية
وذَكر مرقطن أبرز مصادر دراسة تاريخ فلسطين الذي يجب أن يتقن الباحث التعامل معها، مثل المادة الأثرية من حفريات ومصادر الشرق الأدنى والقديم المصرية والأكادية والبابلية، والعهد القديم، والنقوش العربية الجنوبية القديمة، والمصادر اليونانية واللاتينية، والجغرافيين والرحالة العرب، والمصادر الصليبية، والأرشيفات العثمانية، والدراسات العربية الفلسطينية التي وثّقت أسماء الأماكن، وخرائط ووثائق المسوحات الأثرية، والمواد الإثنوغرافية.
وبيّن أن أماكن الذاكرة الفلسطينية هي التي تشكّل الهوية الأساسية لعلاقة الإنسان بالأرض من خلال معرفة ماذا حفظت لنا هذه الأماكن من تاريخ، وأين نبحث عن هذا التاريخ، وكيف تكوّنت هذه الأماكن، وأين تمّ توثيقها، ما يستدعي تطوير قراءة خرائط فلسطين التاريخية. كما وجّه التحية والشكر لجهود الباحث الفلسطيني سليمان أبو ستّة الذي أنجز "أطلس فلسطين (1917 – 1966)" واحتوى اسم خمسة عشر ألف اسم مكان في البلد، وأهمية الخرائط التي تركتها حملة نابليون، وما وثّقه "صندوق اكتشاف فلسطين" الذي تأسّس في بريطانيا عام 1865.
من جهة أخرى، تطرّق مرقطن إلى مسألة مهمّة تتعلّق بأسماء المدن والفرى الفلسطينية واستمراريّتها التاريخية، والتي يمكن من خلالها قراءة تاريخ فلسطين، وهي تتراكم ضمن طبقات أوّلها الأسماء الكنعانية التي ذكرت في المصادر منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد، مشدّداً على أن الأسماء الواردة في العهد القديم ليست عبرية لأنها واردة قبل الكتاب المقدّس، كما أن العهد القديم نفسه لا يذكر أن العبرانيين أسّسوا مدناً. ومن الأسماء الكنعانية بيت لحكم وغزة. وثانيها الأسماء الآرامية كما في عورتا وزيتا وعناتا وبيتا وطولكرم، وثالثها الأسماء اليونانية والرومانية مثل نابلس، ورابعها الأسماء العربية الإسلامية التي استوعبت كافة الطبقات السابقة فيها.
اختتم محاضرته بالحديث عن مداخل أساسية لكتابة تاريخ فلسطين القديم، والتي تحتاج إلى تفكيك المنظومة الاستعمارية والدينية لعلم الآثار التوراتي الذي يمتدّ لحوالي مئة وخمسين عاماً، وتضمّ إرثاً ضخماً يعكس قبح الاستعمار الغربي ولا أخلاقيّته، وكذلك تفكيك التحقيب التاريخي التوراتي واستخدام المصطلحات العلمية الخاصّة بتاريخ فلسطين القديم. ونبّه إلى ضرورة دراسة التاريخ من الأسفل، أي الذي يشتمل الحياة اليومية وحياة عامّة الناس التي تشكّل استمراية تاريخية وتمنح مفاتيح عديدة لفهم التاريخ، وكذلك منهجية علم الآثار من الأسفل الذي يركّز على كلّ اللقى الأثرية، ومنها البيوت والقبور البسيطة.
ونوّه مرقطن بأنه لا تنفع الجزئيّات واختزال التاريخ كما يحدث في التعامل مع تاريخ فلسطين، داعياً إلى إيجاد نظرة شاملة لدراسته واستخدام الدراسات المتعدّدة التخصصات، والتوجّه نحو منهجية دراسة التغيّرات التاريخية على نطاق واسع، مثل التغيرات المناخية وثورة العصر الحجري الحديث، واستخدام منهجية قراءة الطرَس (وتعني الكتابة على الجلد ثم محوها وإعادة الكتابة عليه)، وهي تُستخدم مجازياً من قبل المؤرّخين للتعرّف على ثقافة الشعوب التي طمستها قوى الاستعمار، ومنهجية التاريخ والذاكرة أيضاً، والاهتمام بتاريخ البحث الأثري في فلسطين وإعادة تقييم تقارير الحفريات الأثرية، والالتقات إلى مئات كتب الرحّالة الغربيين التي تحتوي الغثّ والسمين، والحلقات المشتركة بين علم الآثار ودراسات الاستعمار.
كما لفت إلى وجوب تطوير منهجية علمية أساسها الذاكرة الجماعية الفلسطينية، الذاكرة التواصلية الحيّة والذاكرة الثقافية، حيث أنّ كلّ الشعوب والمجموعات البشرية التي كانت في فلسطين ذابت أو رحلت وبقي الشعب الفلسطيني الذي يمثّل خلاصة التجربة الإنسانية على أرض فلسطين.