شهد العالم العربي مخاضاً فكرياً كبيراً خلال القرن التاسع عشر، حيث طرح العديد من المفكّرين والكتّاب التنظيرات حول الحداثة والتراث والهوية والأمة وغيرها من القضايا في لحظة كانت الدولة العثمانية تتراجع قوتها تدريجياً، بينما الغرب يتوسّع استعماره بشكل موازٍ، ما عمّق الأسئلة حول الماضي والحاضر والمستقبل، والتي لا تزال حاضرة إلى اليوم.
"النهضة المعلّقة" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للأكاديمي والباحث المغربي محمد نور الدين أفاية عن "المركز الثقافي العربي"، ويعالج فيه بعض تجليات الفكر العربي منذ بداياته النهضوية، كما يستحضر جملة عوامل تاريخية وسياسية وأيديولوجية التقت وتضافرت لكي تتعرض المشاريع النهضوية كافة، طيلة القرن العشرين وبداية هذا القرن للانحراف والتشوّه والفشل.
لم تتأسس أية نهضة دون الاستناد إلى المعرفة العصرية التي تقوم على العقل والتجريب والتقييم
يقدّم المؤلّف في المقدّمة تساؤلاً مفاده "كيف يمكن مواجهة قضايا النهضة والمعرفة والآخر والصورة والتقنية والحداثة، اليوم، أو مواجهة تمظهراتها المختلفة، من دون استحضار جملة تحوّلات تهم كيفيات التفكير في مهام الفكر ذاته؟ ما هي الطرق الجديدة التي تتطلبها معالجة موضوعات السياسة وشؤون الدولة، والمجتمع وتعقيدات الروابط الاجتماعية، والإصلاح؟".
يواصل أفاية تساؤلاته: "وإلى أيّ حد يمكن استدعاء مقتضيات التفكير، اليوم، من دون النظر في الظاهرة الدينية، وفي حضورها المدوي، وفي الكيفيات التي تطوّرت بها مختلف تعبيراتها في سياق العولمة، ولا سيما في مظاهرها المتشدّدة والقاتلة، عندنا وعند غيرنا، وكيف نفهم المطالب المختلفة التي تتحرك من أجل انتزاع الاعتراف بها؟ سواء تعلّق الأمر بالنساء أم بالعمال أم بالمهمشين، وما ينتج عن ذلك من احتقان سيكولوجي في العلاقات الاجتماعية والعمل السياسي...".
ويرى أن "الظاهر أن مسألة النهضة، كما "مفهوم" الحداثة في الخطاب العربي، وبسبب التضخم الفكري والاحتقان الأيديولوجي والسياسي المقترن بهما، يتداخل فيه الواقعي والخيالي؛ علماً بأن أية نهضة لم تتأسس دون الاستناد إلى المعرفة العصرية التي تقوم على العقل والتجريب والتقييم، وعلى اكتساب أسباب تملّك الأشياء والطبيعة والأجساد، وحتى الحواس والرغبات".
كما يشير أفاية إلى أنه "يمكن القول إن فعل التفكير، في الحداثة وفي النهضة وفي غيرهما، أقرب إلى الانخراط العملي منه إلى الاعتبار الابستمولوجي، مهما كانت الأهمية التأسيسية لهذا الاعتبار، وهذا هو الهم الناظم لفصول هذا الكتاب"، موضحاً أن الحداثة تأسست على إرادتين: إرادة المعرفة، وإرادة القوة، وفي ذلك أدت التقنية أدواراً حاسمة، ولا تزال، في تغيير أنماط النظر والتنظيم والتواصل، فكل اكتشاف تقني حصل في التاريخ، إلا وله تداعيات على السلوك والمواقف والقيم الثقافية والمجتمع..".
ويقارب الكتاب موضوعات مثل التأخر والإصلاح والدولة، وصور الآخر، والتواصل والتعددية والمجال العام، والتواصل الثقافي وأبعاده السياسية، والوعي المدني وقضايا المدينة، وتحولات الإبدال المعرفي ومسألة النهضة، مع التأكيد أننا نعيش واقعاً تاريخياً وسياسياً لا نملك تَرَف قبوله أو رفضه، وأنه لا رجاء على من يركن إلى الدعوة إلى بناء الحاضر والمستقبل اعتماداً على الماضي، أو من يراهن على التقليد. كما أنه بقدر ما يتعين استنكار التضخم الكبير للدولة على حساب المجتمع يجب الاحتراس، في الآن نفسه، من مخاطر "لغة السوق" أو الدخول في عملية "إصلاح" سياسي سطحي تحت عنوان "الديمقراطية".
يضمّ الكتاب ثلاثة أقسام، هي: "المعلّق في النهضة والإصلاح"، و"صور الآخر في المتخيل العربي"، و"في التواصل والتعددية والمجال العام".