على تحقيق التراث وإعادة قراءته، اجتمع الباحث واللغويّ الأردني ناصر الدين الأسد (1922- 2015) بأستاذه المحقّق والناقد المصري محمود شاكر (1909 – 1997) لأكثر من خمسين عاماً من الحوار والتناظر، حيث دافع الأوّل عن أصالة الأدب العربي القديم في الابتكار وعدم محاكاة آداب الأمم السابقة، وتبنّى الثاني موقفاً وسطاً بين "التتريث" والتغريب.
في بيت شاكر، وبالعودة إلى مراجع مكتبته الضخمة، أمضى الأسد أياماً وشهوراً في البحث والتنقيب وعثر على ضالّته من مؤلّفات وأفكار لوضع أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، والتي لطالما أكّد أنها لم تأتِ للردّ على آراء طه حسين حول انتحال الشعر الجاهلي ــ رغم تفنيده لها ــ، وأبقى الأسد على علاقة وثيقة مع كليهما.
عن "معهد المخطوطات العربية" بالقاهرة، صدرت حديثاً نسخة رقمية من كتاب "ثلاث رسائل متبادلة بين محمود شاكر وناصر الدين الأسد" بتحقيق الباحث يوسف السناري، بالتزامن مع احتفالية المعهد بمرور مئة عام على ميلاد الأسد.
تعكس رسائل الأستاذ وتلميذه بحثهما الجاد في التراث
تبادل الكاتبان سلسلة من الرسائل، اختار المؤلّف ثلاثاً منها لم تُنشر من قبل، تعود إلى الفترة الممتدّة بين تشرين الأول/ أكتوبر وكانون الأول/ ديسمبر عام 1959، وحينها كان الأسد يعمل عميداً لكلية الآداب في "الجامعة الليبية" ببنغازي، بينما كان شاكر معتكفاً ومعتزلاً في بيته.
في الرسالة الأولى، يكتب شاكر مضامين إنسانية في لغة تقترب من العتاب بسبب انقطاع الأسد عنه، مستفسراً عمّا يخطّط له الأخير من مشاريع ودراسات خلال العامين اللذين سيقيمهما في ليبيا. وتُحيل عبارات الشوق والسلام إلى معرفة عائلية وثيقة جمعت بينهما، ويختم شاكر رسالته ببيتين من الشعر للعباس بن الأحنف ذكّراه بصديقه وتلميذه، يقول فيهما: "أقمنا مكرهين بها فلمّا/ ألِفناها خرجنا مكرهينا/ وما حُبّ البلاد بنا ولكنْ/ أمَرُّ العيش فرقة مَن هوينا".
يبعث شاكر برسالة ثانية يشير فيها إلى صديقهما الباحث الهندي امتياز علي عرشي، مدير مكتبة "رامبور" في الهند، حيث أصدر ديوان الشاعر الجاهلي الحادرة الذبياني محقَّقاً عام 1949، وأرسل نسخة ورقية منه وطلب من محقّقه أن يكتب مقدّمة له حتى يُعاد طبعه مرة أخرى، ثمّ يفصّل النسخ التي اعتمد عليها في تحقيقه ومنهجيته في البحث، وهو يدوّن هذه التفاصيل لمعرفته بأن الأسد يشتغل على تحقيق نسخة من الديوان أيضاً.
ولا يغفل شاكر، في ختام الرسالة، البوح عن إحساسه العميق بالوحدة والضياع، ما قاده إلى التسكّع في لياليه بعد أن افتقد الرضا عن كلّ ما حوله، وعدم ارتياحه إلى مودّةٍ، واطمئنانه إلى صداقةٍ، ومبالاته بمجاملة، ليردّ الأسد على ذلك في الرسالة الثالثة بشيء من الدعابة حول أمنيته أن ينال "حقّ التسكّع"، وهو حقّ كان ينبغي أن يُذكر بين حقوق الإنسان في الصكوك الدولية.
ثم ينتقل الأسد إلى الحديث عن دعوة تلقاها من "الجامعة الأميركية" في بيروت لكتابة بحث حول "ما أسهم به المؤلّفون العرب في المائة سنة الأخيرة في دراسة الأدب الجاهلي"، لكن السناري يشير إلى أنه لم يستطع التأكّد من كتابة الأسد لتلك الورقة أم لا. ومن جهة أخرى، يفصّل اللغويّ الأردني ما أنجزه من تعليقات وشروح في تحقيقه ديوان الحادرة ضمن ما عثر عليه من روايات، موضحاً أنه يرفق مع الرسالة نسخة من المخطوط بعد أن أتمّ تحقيقه.
ينبّه السناري إلى أنه التزم بمنهج تحقيق المخطوطات في نشر هذه الرسائل، حيث درس مواضيعَ ووضع صوراً أصلية منها، وعلّق وشرح كلّ ما التبس من معنى، وعرّف بالشخصيات التي يرد اسمها في هذه الرسائل، كما ذيّل كتابه بمجموعة من الصور المنتخبة التي لها علاقة بمحتواها، ومنها صورة الأسد مع عدد من الأساتذة في الجامعة الليبية، وصورة للأسد وشاكر خلال مناقشة إحدى الرسائل العلمية، وصورة جمعت الأسد وإسحق الحسيني في منزل شاكر.