"محور الذئب" (10): عند نهاية الحدود الروسية

19 اغسطس 2023
صيّادو نسور من قبائل تستوطن مناطق بين روسيا ومنغوليا والصين، 2020 (Getty)
+ الخط -

خرائطي التي يرجع عهدها إلى عام 1973 (لا أملك عن بورياتيا الجنوبيّة سوى مَسْح غريب أجرته المصالح الأميركيّة على سلّم1/ 000 380) تُشير إلى سباخ أنعمت السّماء بتجفيفها خلال الأعوام الأخيرة. تقدّمت إذن بسرعة نحو الجنوب على درقة الطّمي. جعلتُ وجهتي 170°. أسكرتني ريحٌ عنيفة وهبّت بنفخات حامية نشقتُها بملء حنجرتي. في المساء، بعد ثلاثين كيلومترًا، وصلتُ إلى مشارف داتسان، أهمّ دير بوذيّ في بورياتيا، حيث منحني لاما زنزانة. بعد القباب، باغودات على الأرض السّيبيريّة. علامة مُنذرة بعوالِم آسيويّة بوذيّة. أحبّ أولئك السّفراء (يافطة بلغة أُخرى، سيماء جديدة، شجرة مجهولة)، الذين ينبّهون الرّحّالة بلمسات صغيرة إلى أنّ أفضية جديدة تقترب، والأيّام تمضي، والكيلومترات تموت، وأنّ الهدف الذي كان يبدو عسيرَ المنال يتحقّق في نهاية المطاف بفضل قوّة الصّبر.

إيغور، جاري في الزّنزانة (الرّهبانيّة)، هو كاتب موسكوفي (عضو في "اتّحاد الكتّاب الرّوس" الأسطوريّ)، يُعِدّ كتابًا عن القمع المناهض للدّين عام 1934 في الاتّحاد السّوفييتيّ. حول صحن من الخيار، يشرح لي أنّ كثيرًا من البوريات فرّوا من الأوكاز السّتالينيّين، ولاذوا بمنغوليا، على مسير بضعة أيّام من هنا، إلى أن رُفع حظر ممارسة الدّيانة نسبيًّا عام 1945، وحثّ الرّهبان على العودة. غير أنّ كثيرًا منهم كان قد استقرّ في قرى صينيّة مكّنتهم منها حكومة بيكين. لا أسمع إيغور بانتباه لأنّي مفتونٌ بعينيه اللّتين تشبهان عينَي بُومة، وشعره الشّبيه بشعر مِخبريٍّ فشل لتوّه فشلًا ذريعًا في عمليّة كيميائيّة. ثمّ إنّ الرّيح عصفت برأسي إلى حدٍّ جعلني لا أرغب في سماع أيّ شيء سوى اللّيل الهادئ إذ يمشي. 

الأيّام لطيفة ولكنّها حارقة على حافة السّيلينغا. لطيفة لأنّ التّضاريس تهدأ في التّلال التي تداعب الرّيح ذوائبها ويغسل الوادي برقّة قاعدتها. وحارقة لأنّ الشّمس هنا حامية على قدر ما يكون الشّتاء قارسًا، حيث تتجاوز درجات الحرارة 42°س، والتّيغة التي ظلّت في الخلف، شمالًا، لا تهِبُ ظلّها. في أولان أودي، نتجاوز عتبة المناخ الحيويّ حيث تنتفي المؤثّرات الرّطبة البيقاليّة. تضاريس نورمانديّة تحت سماء ساحليّة (يعني ما يتوقّعه علماء المناخ للعالَم المعتدل في الأعوام القادمة). بيد أنّي في بعض الأحيان أجد الرّاحة في غابة صنوبر، أقلّ كثافة ممّا هي عليه في الشّمال. إن استطعتُ أن أقطع ما بين خمسة وأربعين إلى خمسين كيلومترًا في اليوم، فبفضل مياه سيلينغا الباردة التي أغوص فيها لأُطفئ حرقة السّعير. 

بعد الاستحمام، أجلس على الشّواطئ الرّمليّة، وفوقي يحلّق الإوزُّ البرّيّ، فأقرأ صفحات من أنطولوجياي الشعريّة. وأنا سعيد بأنّي حملتها معي. لقد فكّرتُ طويلًا في مشكلة القراءة خلال السّفر، بمعنى غذاء الرّوح أثناء أشهر طويلة من السّير الوحشيّ. بالنّسبة إلى الجسد، ليس من الصّعب أن يودّع تنويم الرّفاه ومزايا الحضارة. جسدي يتعوّد بسرعة. لا يطول به الوقت كي ينسى أنّ الحمّام كان ساخنًا والوجبة موفورة. السأم لا يُصيب سوى النّفس... هي أكثر صرامة. تتحمّل الصّوم بشكل أقلّ. 

محور الذئب

أعرف أنّ ثمّة مِن مُحبّي التّأمّل مَن يقنع طيلة سنوات بنفس المشهد المُرتسم في إطار كهفه، وأنّ "ناسك الصّحراء لا يخشى الملل بقدر ما يخشاه إنسان العالَم" (كيسرلينغ ). ولكنّي لستُ منهم، وفي وحدة ركوبي الخيل أو المشي، بعيدًا عن المدن، وخارج الطّرقات، غالبًا ما كنتُ أحلم بمكتبة. حلم مستحيل أن يُسافر المرء مع كتبه: الثّقل هو عدوّ المسافر العصريّ، فقد ولّت الأزمنة التي كان جيش من الكولي يحمل صناديق كتب (وغراموفون أيضًا، لأنّ قراءة سويفت والاستماع إلى نغم كادْجن  أكثر متعة). قد يكون الحلّ في حمل كتاب لا ينضب. عندما قمتُ بجولة حول العالم على درّاجة، حملتُ معي نصوصًا دينيّة (التّوراة، القرآن...). هي نصوص لا تنضب، ولكنّها أرهقتني. خلال مسيري الطّويل في جبال الهيمالايا، كان لي روايات تُلتَهم (ميلفيل، ويلز، هيمنغواي): استهلكتُها في ثلاثة أيّام على ضوء شموع بزبدة القطاس، وظلّت روحي بلا غذاء طيلة الشّهور السّبعة الباقية. في عمق سباسب آسيا الوسطى، صحبة بريسيلّا تيلمون، كدّست في أخراج خيولنا كتب رحلات قديمة (روبروك، ماركو بولو، فليمنغ)، غير أنّي وجدت أنّ من القسوة أن نقارن وصف الماضي على ضوء واقع يومنا البائس، ومن المؤلم أن ندخل سمرقند عبر ضاحية صناعيّة ما بعد سوفييتيّة، ونحن نقرأ ما خطّه قلم إيلّا مايّار عن "مدينة زرقاء، مُندفعة إلى السّماء". 

الحلّ (استوجب منّي الوصول إلى الحقيقة عشر سنوات) يكمن في الشّعر. أقرأ الشّعر وأنا أمشي. وأوقّع الإلقاء على نسق النّاجعة: بيغي في السّباسب، أبولّينير في ارتفاع عال، شكسبير تحت العاصفة. أن يكون للمرء أنطولوجيا، ثلاثمائة غرام من الورق، فذلك أمر مثاليّ، لا ينضب. علاوة على ذلك، في المساء، وحيدًا في المخيّم، في اللّيل، يُمكن نزع الورقة التي غذّت الرّوح طوال النّهار، واستخدامها لإضرام نار صغيرة لطيفة نُلقي عليها القصيدة المحفوظة. 

بلد التّلال. أُسطبات بوذيّة تكلّل المرتفعات. تبدو وهي منفصلة في سماوات العواصف كأنّها منارات لهداية جَمْع ضالّ. نقاش عند قدم إحداها ذات مساء عاصف مع لاما مُرتحل إلى داتسان اللّامية. 

- "أنت بوذيّ؟"، سألني. 

- "لا"، قلت. 

- "ولكنّك تحمل نطاق بوذا الأحمر". 

شرحت لك أنّه لا يتعلّق ببوذا بل ببوصلة لا تُفارق عنقي. 

- "لأحتفظ بوجهتي"، قلت.
 
- "بوذا أيضًا يدلّ إلى الطّريق، لو تعلم...".

من أولان أودي، سرتُ عشرة أيّام كاملة قبل الوصول إلى الحدود المنغوليّة. لا أنال من الطّعام سوى القليل لأنّ الحرّ لا يترك مكانًا إلا للعطش. جراد يُصرّ بالآلاف، ليذكّر أنّه ذخيرة من البروتينات لا تنفد. أحلم باليوم الذي لا تتغذّى فيه البشريّة سوى بالحشرات وتدع البقر والخنازير وشأنها. جعلت الجنوب وجهتي، عبر قفار مترامية. أصل إلى قرى منسيّة، أعبر أحيانًا كولخوزات مهجورة. الحرائق تصنع في الأفق أعمدة دخان تحمل سماوات قياميّة. أحيانًا تحمل إليّ رياح عنيفة أتونًا. ذات يوم، وأنا أواجه صعوبة عبور سهل مغطّى بمقاصب، راقبت عمود نار يتنقّل بشكل خطير. قد يلتهب القصب مثل مُشاقة الكتّان لو وصلت إليه. غير أنّي أدركت خطّ الحديد العابر لسيبيريا قبل أن ينشأ تواصل مع الحريق. الخطّ يرسم ندبة فولاذيّة في البراري. صوّة كيلومتريّة كُتب عليها 5511 كلم منذ موسكو. فحّجتُ على النّدبة اللّامعة للسّكك وأنا أفكّر في رافيتش الذي كان "يخشى عبور سكّة العابر لسيبيريا أكثر ممّا يخشى عبور حدود جغرافيّة". لو مرّ من هذه النّقطة تحديدًا، لما خشي شيئًا؛ فالقطار يمضي في سباسب مقفرة. 

خصّصت الأيّام الثّلاثة التّالية في صعود المجرى الأوسط لسيلينغا. الماء يجري مُترجرجًا، وكأنّه مُرهَق بالحرّ هو أيضًا. ثمّة قطعة أرض رمليّة رهيفة قابلة للسّير بين الوادي والنّجود التي تُحيط بها. ولكن يُصادف أن يكون الجدار الصّخريّ مُنهارًا وقد حلّت محلّه مسطّحات واسعة مُصفرَّة من أثر الجفاف: مشهد قديم لراعٍ كريتيّ أو فيلسوف إغريقيّ. في صبيحة اليوم الثّاني، انفتح الوادي على سرير منقعيّ واسع يتراوح عرضُه بين ثمانية وتسعة كيلومترات. نفد زادي. بفضل شصوصي، سحبت من الماء ثلاث سميكات ذات لحم مُوحِل شفعتها بكشمشٍ ريّان. سرتُ على نَبْو طبيعيّ يطلُّ على المستنقع، يعكس كلّ ألوان عافية الكائن الحيّ: الأخضر، والأحمر، وخبّازيّ الأعشاب والنّباتات النديّة. لي تهويمات عاشب. أشقُّ المرعى وعشبه يبلغ قامتي.
 
ولا يزال المحور الجنوبيّ هو الذي يوجّهني نحو 190°، والإوزّ يرسم في السّماء شارة النّصر V على انعدام الجاذبيّة. فيما وراء المستنقعات، يظهر من جديد نفوش التّلال. وبفعل ثالوث شسوع السّماء ونقاء الهواء وعدم تماثل القاعدة، يتجلّى وهم انقلاب البانوراما إلى المدى البعيد. في سيبيريا، ينفلت المنظر الطّبيعيّ أيضًا عبر نقاط هروبه. جبهة عاصفة تصعد نحو الشّمال وتترك في أثرها قوس قزح يفحّج على الوادي ويؤطّر بدقّة متناهية سباق قطيع من الخيل البرّيّ، المنتشية بذاتها. طردتها أمام خطواتي إلى الجنوب. 

منذ ليلة الدّير البوذيّ، وأنا لا أني أُخيّم في العراء. ولكن ذات مساء، على الضّفّة الأخرى، ناداني صيّاد لكي يمنحني المأوى في عزبته. جاء ليحملني في زورقه. كان يجذّف بقوّة وأنا أنظر على صدره العاري إلى وشوم كنائس ذات قباب تتدحرج تحت عضلاته. ثمّة وشوم كبيرة وأُخرى صغيرة. على عرض الظّهر كلّه: بازيل السّعيد.
 
- "أنت تتأمّل كنائسي، أليس كذلك؟".

- "بلى"، قلت. 

- "وُشمت في السّجن. هي موجودة كلّها في مكان ما من الأرض الرّوسيّة؛ ياروسلاف، نوفغورود، زاغورسك... كان لي متّسع من الوقت، لو تدري... ثماني عشرة سنة من الحبس!".

لم أسأله لماذا لأنّه ليس فيه ما يدلّ على أنّه سجين سياسيّ. بيد أنّ ثمّة في مساجين الحقّ العامّ نوعًا دقيقًا من الجرم لا أحتمل ذكره. 

- "عند خروجي اخترت العيش في التّيغة. أقضي العام كلّه في الصّيد صحبة فيرا، زوجتي. عندما يكون الصّيد وافرًا، تحمله على ظهرها وتذهب لبيعه في أوّل قرية على مسير ثماني ساعات في عالية الوادي. الحياة هنا خير من حياة المدينة. قاسية، ولكنّنا أحرار. في أولان أودي، أحسّ كأنّي عدت إلى السّجن". 

نصب تذكاري - القسم الثقافي
نُصب تذكاري في العاصمة المنغولية أولان باتور، تكريماً للجنود السوفييت في الحرب العالمية الثانية (Getty)

الكوخ مريح: سريران، مدفأة، أسلحة صيد، شبّاك صيد. من أمام: سيلينغا، رخوًا. ومن خلف: الغابة الصّافية، الخالية من كلّ نبْتِ حراج، وفوضى المناسغ، صورة من الغابة البورياتيّة. حول مائدة من السّمك المُدخَّن والمملَّح والمجفَّف، أوان مليئة بالخيار المُخلَّل وأكواب مليئة بالكشمش والعنب البرّيّ، شربنا على نخب لقائنا. سألتهما عن روسيا. بصق ساشا على الأرض. 
- "الدّيمقراطيّة جاءتنا بشيئين: البورنوغرافيا، والإشهار لشفرات الحلاقة الكهربائيّة". 

- "ولكن لم تجئنا بالكهرباء"، قالت فيرا. 

ظلّ دويّ العاصفة يتردّد حتّى الفجر. نمتُ على أحد السّريرين. أحسستُ حشرتين ليليّتين ترتعان على جسدي كأنّهما على سفينة نوح، يومَ ركوب عديمات الفقار. 

عند الفجر، سقاني ساشا شيئًا من "التشيفير"، شراب الغولاغ: شاي مركّز ثخين يهتزّ القلب فور شربه. 

- "سرْ ثلاثة كيلومترات نحو عالية النّهر. هناك تجدها". 

أعلمني ساشا بوجود أنقاض كنيسة وسط سباسب مقفرة على ضفّة سيلينغا. لاحت عن بُعد بقبابها وناقوسها وجدرانها البيضاء، المفتوحة من بعض جوانبها. لم يبق لها من الأوفياء سوى الطّيور. غِدْفان بزُرقة الفولاذ، شواهين، غطّاسات قُنبرانيّة. ومن حولها سهلٌ أجرد تحرُسه الكنيسة، مرقب مهجور لضفاف نهر لن يأتي منه أحد. مكثتُ طويلًا تحت القبّة النّديّة قبل أن أستأنف طريقي، سعيدًا بأنّي اكتشفتُ واحدًا من تلك الأمكنة التي نحسّ فيها بالرّوح تصعد إلى الجلد. 

الدّيسمبريّون. هم مرّة أُخرى. إذا نهض الجمال في الفضاء السّيبيريّ الشّاسع الأبعاد، فمعناه أنّ طيفهم يرود. تلك الكاتدرائيّة الصّغيرة، بنوها أثناء نفيهم، حيث اختاروا قطعة أرض يمثّل موقعها دليل ذكاء وذوق. غالبًا ما أفكّر في تلك الثّورة وآسف أنّها لم تلد ثورات أخرى. لأنّ انفراجها لافت للنّظر. كان لمتمرّدي ديسمبر 1825 من النّبل أن حلموا ببناء مستقبل أفضل بدل إزالة مائدة الماضي. المفارقة أنّ النّفي منحهم فرصة التّجريب على أرض المنفى، تجربة المجتمع المستنير، النّخبويّ بسخاء، الذي كانوا يتوقون إليه. تلقّوا في مصابهم إمكانيّة تحقيق حلمهم. 

الأيّام الأخيرة التي قضيتها قبل أن أصل إلى الحدود المنغوليّة كانت متخمة بالحرّ والجمال مختلطين. بقطع طريقي عبر التّلال، ربطت الصّلة بين تعرّجات الوادي واحدًا واحدًا، تلك التعرّجات المبسوطة في عمق حوض السّيلينغا. كان ساشا قد باعني سمكًا لثلاثة أيّام. على طول الوادي تزدهر شريحة ضيّقة من الحياة: بوص، أعشاب عالية، جالية طيور مجنونة... هناك أصيد أو أنام في ساعات الظّهيرة القائظة، حيث الشّمس المميتة ترفع درجة الحرارة المحيطة إلى 45° س. ينتابني انطباع بأنّ الحرّ ينمّي الإحساس بالعزلة. من استحمام عارض إلى مراحل مرهقة، كنت أقطع خمسين كيلومترًا في اليوم. كلُّ مساء يستقبلني في حالة ذهول تامّ.

أزلت في يومين المائة كيلومتر الأخيرة على طول سكّة الحديد التي تنساب، في اتّجاه الجنوب، نحو منغوليا، والتي التحقتُ بمسارها عند مستوى قرية سيلينغيفا. أمشي متعثّرًا على دعامات السّكك التي لم توضع على مقاس خطوة الإنسان. أنام قرب أحجار الرّصّ فتسحبني بعنف، قرقعة القطارات المارقة نحو بيكين، من قيلولاتي المتواترة. صادفت يومًا مؤمنًا قديمًا يحشّ العشب على حافة الخطّ الحديديّ. "لدوابّي"، قال قبل أن يشرح لي أنّه يعيش وحيدًا، في كوخ منذ وفاة أبنائه الثّمانية وزوجته. "البقر يموت بدرجة أقلّ". لم أمكث طويلًا في قرية زيابشين حيث تلقّيت، في قالب تذكار، وابلًا من الحجارة رجمني بها جمْعٌ من المراهقين البائسين. 

أُصبت في قفاي فهربتُ هروب كلب يُثير الشّفقة. قابلتُ ثلاثة عمّال في السّكك الحديديّة كانوا يجهّزون على قارورة فودكا تحت ظلّ شاحنة نقلهم. وفي مرّة، منعتني ريح هائجة من سماع قطار مقبل خلفي. زعيق الزّمّور جمّد دمي، وما كدتُ أتدحرج على تلعة ذات أعشاب عالية حتّى مرقت القاطرة كالصّاروخ. عند الغروب، وأنا ممدّد في مخيّمي، مستلقٍ في الوقت الذي تنام فيه الدّوابّ، أسلمتُ نفسي لذلك الطّقس الذي يعتبره كلُّ متسكّعي العالَم سعادتهم القصوى: مدّ الأرجل التي حملتهم طوال النّهار، ببطء. وتركها مستقيمة، موتورة، ثابتة، إلى أن يأمرهم ضوء الفجر باستئناف الجهد. 

حطّ الضّباب على سباخ سيلينغا، وسال في قنواتها، ثمّ حطّ على الجهة كلّها ما يُشبه عجيزة ضخمة لعملاق استراح في الرّيف. لعجزي على تبيُّن طريقي أبعد من عشرين مترًا، ضيّعت نهار تسكُّع في منحدر تنبت فيه أعشاب جارحة. استطاع الـ"جي بي إس" أن يُحافظ على الوجهة، ولكنّه لم يرشدني عن الأذرع الميّتة والقنوات التي تجهلها خرائطي، والتي كانت تسدُّ أمامي الطّريق. عندما انقشع الحجاب، لمحتُ على تلّة أطباقًا هوائيّة لمحطّة إرسال وشبكة مُسنّنة من الهوائيّات. لا شكّ أنّي لا أبعد كثيرًا عن الحدود. التحقتُ بثنيّة ليست موجودة في خرائطي.

من منغوليا - القسم الثقافي
من التلال المُشرفة على مدينة كياختا عند الحدود الروسية المنغولية

أعرفُ سلفًا أنّ سيّارة الجيب الخاكيّة التي خرجت فجأة من مسلك عريض لن تحمل إليّ ما يسرُّ. سوف أدفع الثّمن ليلة استنطاق كاملة، وكذلك تفتيش تامّ لجرابي، وشتّى أنواع التّخويف (دون عنف والحقّ يقال)، لتجرُّئي على الاقتراب من قاعدة عسكريّة. جهازي الـ"جي بي إس"، خرائطي الجوّيّة، خرائطي العسكريّة، بوصلتي الإلكترونيّة، فرجار اتّجاه النّظر، مقياس الارتفاع، كلّ ذلك أثار الجنود. لعلّهم ظنّوا أنّهم قبضوا أخيرًا على الجاسوس الذي آنستهم به سنوات من ثقافة السّرّيّة. إلا أنّ مقالات الصّحف النّاطقة بالرّوسيّة التي تروي قصّتي ورسائل التّوصية من وزارة الثّقافة الياقوتيّة خالفت شكوكهم. استأنفت رحلتي طليقًا في اليوم التّالي. بل إنّ البالكوفنيك سمح لي عند الفجر بالاستحمام، وهو ما حوّلني إلى رجل جديد أفضل ممّا كان يمكن أن تفعله حصّة جدل ثوريّ.

تعاقُب تلال مغروسة بالصّنوبر. في قمّة كلّ واحدة، إطلالة على التي تليها. لا أمل في نهاية انتفاشها. أسير دونما خوف من الدّببة، فقد قيل لي إنّها نادرة في هذه الأنحاء. وفجأة، هي ذي العلامة التي كنت أنتظرها: خطّ مضاعف من الأسلاك الشّائكة مفصول بممرّ أزيلت عنه الأشجار بعرض عشرة أمتار. لقد وصلت إلى نهاية الأرض الرّوسيّة. أمامي، على مسافة تقلّ عن خمسة عشر مترًا، منغوليا، وقد بدت منيعة. عشتُ في تلك الثّواني القليلة واحدة من تلك السّعادات التي تبرّر أشهُرًا من السّفر: ألا وهي الوصول إلى أبواب مملكة، حافة أجراف مرمريّة، ضِفاف جُزر مرجان...

غير بعيد عن الأسلاك الشّائكة، وتحت غطاء الغابة، سرت بمحاذاة الخطّ نحو الشّرق. وفي كلّ خمسمائة متر ثمّة برج مراقبة – من الجهة الرّوسيّة. خطرت ببالي الجهود المبذولة لربط ذلك الحاجز بكل قمّة من القطاع. السّلطات السّوفييتيّة تخصّص جهودًا كبيرة كي تُثبتَ لشعبها أنّه يُقيم في جنّة، ومن هنا نفهم لماذا حرصت على تسييج جنّات عدن إذا ما رغب المقيمون فيها أن يذهبوا ليروا ما يجري في النّاحية الأخرى - في الجحيم. تمّ تجسيد الحدود في عهد بريجنيف بأوّل خطّ من الحواجز الشّائكة. وعند سقوط الاتّحاد السّوفييتيّ عام 1991، وخروج منغوليا من حضنه، أُقيم ستار ثانٍ من الأسلاك الشّائكة، وإقفار المنطقة المحرّمة. الحدّ الوحيد الذي سجّله رافيتش عام 1941 ليس سوى "عمود أحمر بثلاثة أمتار يحمل يافطة معدنيّة مستديرة عليها الشّعار السّوفييتيّ – حزمة قمح، نجم، منجل ومطرقة – فوق نقش بأحرف سيريلّية". وببرودة الدّم التي تميّز كبار الرّحّالة، هنّأ البولنديّ ورفاقه أنفسهم باعتدال بوصولهم حتّى هنا وواصلوا طريقهم نحو الجنوب.

في وسط الغابة، قطعت ثلاثين كيلومترًا نحو الشّرق، على طول سكّة الحديد حتّى مدينة كياختا، نقطة عبور جمركيّ رسميّ بين روسيا ومنغوليا. قبيل دخول المدينة، أخفيتُ خنجري تحت جذور شجرة: قد يكتشفه حطّاب ذات يوم. لا أريد على أيّ حال المجازفة بالتعرّض لستّة أشهر سجن بتهمة حمل سلاح أبيض كما ينصّ القانون الرّوسيّ. من كياختا يمرّ طريق الخطّ العابر لسيبيريا القاصد إلى أولان باتور، حيث يسمح للأجانب بمغادرة روسيا إلى منغوليا. من الكَفر التّجاريّ القديم الذي كان محطّة هامّة في "طريق الشّاي"، لم يبق سوى وسط مدينة جميل ذي بيوت من الخشب. بعض الأجراس تستقطب الأضواء أمام كنائس مهجورة. نُصادف كاهنًا أرثودوكسيًّا، فتيات في تنانير قصيرة، صينيّين بخواتم ذهبيّة مُرصَّعة بشحم أصابعهم، منغوليّين جفافًا مثل هراوات فارسات: كلّ ذلك الشّعب المعتاد على المناطق الحدوديّة حيث يخيّم دائمًا، تلهّف محموم نوعًا ما، مردُّه إلى أنّ كلّ فرد لا يعرف جيّدًا أين يسكن بالضّبط.

المركز الحدوديّ قشيب. نحن هنا على حافة عالَم، فالتّيغة، على مسافة بضعة كيلومترات جنوبًا، تُلقي السّلاح. الحدود الرّوسيّة المنغوليّة تُحاذي طرف الغابة. ستار السّنادر والصّنوبر ينفتح بغتة على السّباسب الكبرى: في أوراسيا، لا تزعج الجغرافيا نفسها بالانتقال من حال إلى حال. هنا لا مجال للفروق البسيطة. فالحدود بين الأنظمة البيئيّة مثل طبائع البشر وضربات التّاريخ: قاطعة.

بينما كانت ديوانيّة تفتّش جرابي، نظرت إلى السّماء فلاحظت أنّها ليست نفسها. ذلك أنّها صارت الآن مثل مرآة موضوعة على مائدة. تُغطّي ذلك السّهل المنغولي الكبير، الشّاسع مثلها. 

"الأرض قاسية، والسّماء بعيدة"، تقول حكمة فرسان آسيا الوسطى. ختم خفيرٌ منغوليّ تأشيرتي. حان الوقت الآن كي أتثبّت من المثل السّيّار.


* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي

المساهمون