لا يكتفي كتاب "مخيّم تلّ الزعتر: وقائع المجزرة المنسية"، للباحث الفلسطيني محمد داود العلي، بتوثيق الحوادث التي قادت إلى المجزرة في المخيّم الفلسطيني ببيروت يوم 12 آب/ أغسطس 1976 بحقّ آلاف المدنيين من الذين ذُبحوا أو اختفت آثارهم، على يد مليشيات اليمين المسيحي ووحدات الجيش الموالية له، تنفيذاً للخطّة التي أعدّها المقدّم وقتذاك ميشال عون. ثمة أبعاد سياسية وعسكرية وإنسانية، وسياقات قانونية واجتماعية واقتصادية يفحصها المؤلّف في كتابه الضخم الذي أصدره في شباط/ فبراير "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة.
أمام جمهور الصالون الثقافي في "معرض الدوحة الدولي للكتاب" (المستمر حتى الحادي والعشرين من هذا الشهر)، وقُبيل حفل توقيع الكتاب في جناح "المركز العربي" مساء أول أمس الثلاثاء، طرح العلي سؤالاً افتتاحياً: "لماذا نكتب هذا الكتاب؟"، ليجيب بأن جيلَيْن أعقبا هذا الحدث قد لا تكون لديهما فكرة كافية عن مجزرة تُعَدّ جرحاً وطنياً لدى الفلسطينيين، ومن الأشد فظاعة في السنتين الأوليين من الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990).
يقع المخيّم ــ الذي أُنشئَ عام 1949، بعد النكبة الفلسطينية ــ على بعد ستة كيلومترات من مركز بيروت. وقبل أن يُمحى من الوجود، كان مكانَ عيشِ لاجئين فلسطينيين وكذلك فقراء لبنانيين في حزام البؤس عند القسم الشرقي من العاصمة اللبنانية.
وقال العلي إن العمل على الكتاب استمرّ ستّ سنوات، أمضى السنتين الأوليين منها في اتّباع منهج صحافيّ لتقصّي رواية مخيّم تلّ الزعتر وسردها وكتب النصّ وفق هذه المقاربة، فكان، بحسبه، محاكاة لكتاب "مجزرة إهدن أو لعنة العرب المسيحيين" للكاتب الفرنسي ريشار لابيفيير وكتب أخرى تناولت وقائع محدّدة في حرب لبنان.
تحليلٌ للأحداث وتسلسلها مدعومٌ بشهادات مَن واكبوها
لكنّ التعقيدات السياسية والأبعاد الإقليمية لحرب السنتين (1975 و1976) ووقوع معركة تلّ الزعتر في أثنائها، أثبتت استحالة مواصلة اتباع هذا المنهج، فكان لا بد له من إنجاز دراسة سياسية وتاريخية تعتمد قراءة الأحداث وفق تسلسلها الزمني وسياقها التاريخي، مدعومةً بشهادات شهود العيان الذين واكبوها.
يشير الكاتب بالطبع إلى أن كتابه ليس بديلاً عن شهادات سجّلها شهود عيان حول مشاهداتهم في مخيّم تلّ الزعتر ــ كالطبيبين يوسف العراقي في كتابه "يوميات طبيب في تلّ الزعتر"، وعبد العزيز اللبدي في "حكايتي مع تلّ الزعتر" ــ بل هو محاولة للإحاطة بالقصّة وإعادة تقديمها من جوانب تحليلية أوسع.
لا رواية متكاملة
لجأ العلي إلى مراجع كثيرة تمر فيها فصول أو تفاصيل تتعلق بحدث رئيسي في مسار الحرب الأهلية، علماً بأن "أي رواية متكاملة عن الحرب الأهلية عموماً، أو عن حصار تلّ الزعتر (52 يوماً)، لم تجد طريقها إلى النشر أو مناهج التعليم"، وفي جانب مقابل لا يقل أهمية، فهو جزء من تاريخ سورية "لأنه كان واحداً من دوافع التدخّل السوري الغامض". وهنا أشار العلي إلى صعوبة قصوى في الحصول على شهادة ضابط سوري عن تلّ الزعتر في ذلك اليوم، الذي تصفه أول شاهدة يلتقيها الكاتب في الدوحة، وكان عمرها 24 عاماً، إذ قالت: "كان 12 آب أشبه بيوم القيامة".
لكنّ حظ الحقيقة أوصله إلى أحد الشهود الأحياء الذي قاله إنه مدينٌ له بالشكر، ألا وهو بلال حسن، وقد كان مسؤول "الصاعقة" في المخيّم (التنظيم الفلسطيني المنبثق من "حزب البعث" في سورية) "وقد أعطاني، ربما من باب تبرئة الذمة، معلومات لا تُصَدّق، ومنها أن فصيلاً من الجيش السوري كان يقاتل دفاعاً عن المخيّم تحت اسم 'الصاعقة'، فقُتلوا جميعهم، وفصيل آخر في المقابل يقاتل في صف المليشيات اليمينية اللبنانية".
لعلّ شهادة كالتي جاءت على لسان الموسيقار زياد الرحباني، والمسجَّلة في لقاء تلفزيوني قبل سنوات، تدعم ما حصل عليه الكاتب من مسؤول "الصاعقة"، الذي تحمّله الروايات المتداولة مسؤولية سقوط المخيّم. فهي تنطق بما يتجاهله مؤرّخون وزعماء سياسيون، إذ أوردَ بالتفصيل لقاءات بل حفلات رقص في بيت العائلة بمنطقة الرابية، وتضمّ ضبّاطاً ومسؤولين أمنيين سوريين وقادة مليشيات مسيحية، بينما تبدو من الشرفة نيران الصواريخ والقذائف وهي تنهال على المخيّم المحاصر بمساحة لا تتجاوز الكيلومتر المربع.
تخليد تلّ الزعتر
كان الرحباني واحداً ممّن خلدوا تلّ الزعتر في مقطوعة موسيقية ضمن ألبوم "إيه في أمل" لفيروز عام 2010، أي بعد 34 عاماً من حصار المخيّم، وهو ما ثبّته المؤلّف في كتابه، إلى جانب الكثير من الأعمال، كأغنية "يا حكاية كل الناس" للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
وفي الشعر، ثمة "أحمد الزعتر" لمحمود درويش التي غناها خالد الهبر، ومن ثم مارسيل خليفة "غنائية أحمد العربي"، وقصيدة "تلّ الزعتر" لمظفر النواب، وسلسلة قصائد لمعين بسيسو، منها "أقطع كفّي.. أُرسلُها لك يا تلّ الزعتر برقيّة".
وفي التشكيل هناك 28 لوحة رسمها الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط، وقالت زوجته الفنانة تمام الأكحل وهي تراقبه بصمت "كان يرسم ويشهق"، وللفنان العراقي ضياء العزاوي "النشيد الجسدي: قصائد مرسومة لتلّ الزعتر" ولوحات أخرى للفنان الفلسطيني توفيق عبد العال.
رفض "الصليب الأحمر" إطلاع المؤلف على وثائق يحوزها
أمّا في السينما، فهناك الفيلم الوثائقي "تلّ الزعتر" لكلّ من اللبناني جان شمعون والفلسطيني مصطفى أبو علي والإيطالي بينو أدريانو"، والفيلم الوثائقي "الفلسطيني" الذي أنتجته الممثّلة البريطانية فينسيا ردغريف، وفيلم "خبر" للمخرج الأردني عدنان مدانات، وفيلم "لبنان - تلّ الزعتر" للمخرج العراقي قاسم حول.
عملَ العلي، كما أورد، بتقنيات الباحث والصحافي الاستقصائي، وفي بحثه التاريخي استرشد بأعمال باحثين بارزين؛ وفي مقدّمتهم الكاتب باتريك سيل، والمستشرق إيغور تيموفييف، والباحثان اللبنانيان سمير قصير وفريد الخازن، والمؤرّخ الفلسطيني حنّا بطاطو.
وفي أثناء عمله، تواصل المؤلّف مع "اللجنة الدولية للصليب الأحمر"، وتحديداً مسؤولة الأرشيف والإعلام، إذ كان مهتماً باستجلاء تفاصيل مهمّة مبعوث "الصليب الأحمر الدولي" الذي أشرف على خروج المدنيين، فجاءه الرد: "نحن نتحفّظ على تسليمك الوثائق، لأنه ينبغي أن يمرّ عليها خمسون عاماً بحسب قوانين الصليب الأحمر".
كان مقتل ركّابِ الحافلة السبعة والعشرين من الفلسطينيين واللبنانيين يوم 13 نيسان/ إبريل 1975، في ما يعرف بحادثة عين الرمّانة، إيذاناً باندلاع الحرب الأهلية. لكنّ الكاتب يؤكّد أن تلّ الزعتر هو المستهدف، حيث كانوا عائدين إلى المخيّم حين أوقفهم مسلّحون من "حزب الكتائب" اليميني وأعدموهم، بينما يستعيد العلي ــ أبعد من ذلك ــ مقولة باتريك سيل في وصفه للمجزرة: "إنها أوّل مجزرة يرتكبها عرب بحقّ مدنيين فلسطينيين، ونموذج مسبق لما سيحصل لاحقاً في صبرا وشاتيلا".