استمع إلى الملخص
- **أعمال وتجارب مدرسة الدار البيضاء**: يضم المعرض حوالي 100 عمل فني، تشمل لوحات تجريدية وتجارب غرافيكية، وتوثق إعادة تعريف العلاقة بين الفن والحرف والتصميم والعمارة، مع دمج التأثيرات الغربية والتراث التقليدي.
- **إصلاحات فريد بلكاهية وتأثيرها**: تولى بلكاهية إدارة المدرسة عام 1962، وأجرى إصلاحات لتعزيز الفرص أمام الفنانين المغاربة، وأسهم في المعارض الدولية والمجلات الأدبية، مما يبرز تشابك النتاج الفني والفكري مع التغيرات السياسية والاجتماعية.
رغم أنّ الدول التي نشأت بعد انحسار السيطرة المطلَقة لـ القوى الاستعمارية عن مساحاتها الجغرافية تحتفل سنوياً بأعياد استقلالها، كلحظة مفصلية في تاريخها المُعاصر تفصل بين عصرَين مختلفين، إلّا أنّ عملية التخلُّص من الاستعمار التي تمرّ عبرها شعوب الجنوب العالمي قد تكون أطول وأعقد من هذه التقسيمات المرحلية الحاسمة، خصوصاً في الجوانب الثقافية؛ إذ إنّ مخلّفات كثيرة تبقى داخل البنى الثقافية والأكاديمية في المستعمَرات السابقة.
من أمثلة هذا الصراع الطويل للتخلّص من هيمنة المستعمِر القديم على المؤسّسات الثقافية والأكاديمية، كان المجهود الكبير الذي قامت به مجموعة من أساتذة "المدرسة العليا للفنون الجميلة" وفنّانيها، في مدينة الدار البيضاء المغربية في الفترة الممتدّة من أوائل الستّينيات وحتى أواخر الثمانينيات، وهي التجربة التي تُخصّص قاعة الفنون "شيرن" في مدينة فرانكفورت الألمانية أوّل معرض كبير لها بعنوان "مدرسة الدار البيضاء: طليعة ما بعد الاستعمار".
والمعرض، الذي افتتح في الثاني عشر من تمّوز/ يوليو الماضي، ويستمر حتى منتصف تشرين الأوّل/ أكتوبر المُقبل، يُعقَد بالتعاون مع "غاليري تيت سانت إيفز" البريطاني و"مؤسّسة الشارقة للفنون"، وهو من تنسيق مراد منتظمي ومادلين دي كولينت.
حضرت في معارض خارج المغرب تحت عنوان التضامن العابر للأوطان
تعود معظم الأعمال المعروضة، التي يبلغ عددها قرابة 100 عمل، إلى الممثِّلين الرئيسيّين لهذه المدرسة التجديدية؛ وهُم: فريد بلكاهية (1934 - 2014)، ومحمّد شبعة (1935 - 2013)، وبيرت فلينت (1931 - 2022)، وتوني ماريني (1941)، ومحمّد المليحي (1936 - 2020). كوّن هؤلاء، بعد استقلال المغرب عام 1956، "مركزاً مفعماً بالحيوية للتجديد الثقافي"، عمل على "إعادة تعريف العلاقة بين الفنّ والحرَف والتصميم والعمارة في السياق المحلّي، من خلال الجمع بين التأثيرات الفنّية من المدن الغربية الكبرى وعناصر التراث التقليدي الذي قُمِعَ خلال الحقبة الاستعمارية"، وفق تقديم المعرض.
تتنوَّع الأعمال بين اللوحات التجريدية كبيرة الحجم (الجداريات) بألوان زاهية، والتجارب الغرافيكية، والأغراض المستخدَمة في الحياة اليومية، بالإضافة إلى مواد توثيقية كالأفلام التسجيلية والصور من معارض نظّمتها المدرسة في فترة مبكرة، ومجموعة كبيرة من الملصقات الدعائية لعروض وفعاليات نظّمها أو شارك فيها فنّانو المدرسة، سواء داخل المغرب أو خارجها، من أبرزها الملصق الذي صمّمه محمد شبعة ومحمد المليحي ليكون الملصق الرسمي لـ "المعرض الدولي للفنون من أجل فلسطين" الذي أُقيم في بيروت سنة 1979 بتنظيم من "منظّمة التحرير الفلسطينية"؛ حيث عُرض 200 عمل فنّي تبرّع بها فنّانون من قرابة ثلاثين بلداً.
ويُدرِج المعرض هذه المشاركة وغيرها تحت عنوان "التضامن العابر للأوطان"، الذي سعت من خلاله المدرسة لـ "الموازنة بين البحث عن هوية ثقافية مغربية محدَّدة والتضامُن الفنّي والسياسي بين البلدان العربية المستقلّة"؛ حيث مثّل المغربَ 14 فنّاناً مرتبطين بـ"مدرسة الدار البيضاء" في "بينالي الفنّ العربي الأوّل" في "متحف بغداد للفنّ الحديث" بالعراق عام 1974، والذي جمع فنّانين من مختلف البلدان العربية، وعرض أكثر من 600 عمل فنّي.
وللوقوف أكثر عند أبرز المحطّات التاريخية للفنّانين الطلائعيّين في المغرب، خُصّصت إحدى زاويا المعرض لإبراز تسلسُل زمنيٍ يمتدّ من سنة استقلال المغرب (1956) إلى أواخر الثمانينيات، وهي السنوات التي نشط فيها الجيل الأوّل من الفنّانين المغاربة، أساتذةً وإداريّين، في "المدرسة العليا للفنون"، التي أسّسها مستشرقون فرنسيون سنة 1919، في أثناء الاستعمار الفرنسي للمغرب. وعلى الرغم من أنّ المدرسة كانت مفتوحة أمام من تُسمّيهم السكّان الأصليّين للدراسة والتعليم، وأنّ مؤسّسيها اهتمّوا بالأنماط الفنّية المحلّية بالتأريخ لها وتطويرها، فإنّ الواقع يُثبت علوّ يد المستعمر صاحب الامتيازات والحظوظ على الأصلانيّين المهمّشين. كذلك يصف حميد إربوح في كتابه "الفن في خدمة الاستعمار" أنّ الطلّاب المغاربة في المدرسة كانوا يُدرَّبون ليُصبحوا "فنّيين لمساعدة المهندسين المعماريّين الفرنسيّين"، وهو ما دفع الطلّاب المغاربة إلى أن يصبحوا حرفيّين بارعين، بينما يُهيّأ المجال للطلّاب الفرنسيّين لدراسة الفنون الجميلة والالتحاق بعدها بالجامعات الفرنسية، ما يجعل الفرنسيّين أصحاب النظرة الإبداعية والغلبة الثقافية، بينما يلجأ المغاربة إلى امتهان حرف يدوية يتكسّبون منها، تُنتج ما يُفضّله المستعمِر ويخلق له الأسواق.
وتُعتبر سنة 1962 مفصليةً في تاريخ المدرسة، وذلك حين تولَّى إدارتها فريد بلكاهية، الذي عمل على إصلاحها تربوياً وبُنيوياً، بشكل يتيح الفرص للفنّانين المغاربة للارتقاء في هيكلية المدرسة والتواصل مع المؤسّسات الفنّية العربية والأجنبية، وقد كان الاهتمام بالفنّ المحلّي والبناء عليه من أهمّ العوامل التي رفعت ثقة الفنّان المغربي بنفسه، وإحساسه بذاته، بعيداً عن المنافسة غير المتكافئة مع فنّانين عالميّين يولَدون بعالميتهم، لكونهم ينتمون إلى مجتمعات تتحكّم وتبني المؤسَّسات الثقافية التي تُحدّد المعايير.
تولّي بلكاهية إدارتها عام 1962 كان لحظةً مفصلية في تاريخها
وقد عزّز الفنانون نشاطهم الفكري والفنّي بتأسيس عددٍ من الروابط والجمعيات، واستضافة فنّانين من البلاد العربية وأفريقيا والعالم والمشاركة في العروض التي تستضيفها جمعياتٌ ومؤسَّسات خارج المغرب، بالإضافة إلى مشاركتهم بصفتهم مصمِّمي غرافيك لعددٍ كبير من المجلّات الأدبية وإثراء محتواها بكثير من التصاميم واللوحات الجذّابة، كمجلّة" Souffles" (أنفاس) للشعر والنقد الأدبي.
ولم يَقتصر عرض المحطّات التاريخية على ذِكر المعارض والنشاطات التي نظّمتها المدرسة أو شارك فيها فنّانوها، بل ورد فيه عددٌ من الأحداث السياسية المهمّة في تلك الحقبة، للدلالة على تشابُك النتاج الفنّي والفكري مع التغيّرات السياسية والاجتماعية محلّياً وعالمياً.
ولعلّ أوضحَ ما يُبرزه المعرضُ في هذا السياق، أنّ الصراع مع المستعمِر صراعٌ طويل ومركّب ومتعدّد الطبقات، ويذكّر أيضاً بإجحاف السردية التي أُسّست عليها أغلب المدارس والجامعات في العالم، والتي تجعل الحداثة الأوروبية منطلقاً للعالم الجديد، وأنّ كلّ ما سبق هو تراثي قديم وخارج عن الخدمة. لم يكتفِ فنّانو "مدرسة الدار البيضاء" بإعادة تدوير رموز وأشكال أمازيغية وعربية وأفريقية، لتكون مجرّد مصدر إلهام إضافي لتصميم أعمال فنّية تعلَّموها من أساتذتهم المستعمِرين، بل أصرّوا على التذكير بأنّ قطَع التراث هذه هي نفسُها قطَعٌ فنّية، لها شيوخها وأساتذتها ومدارسها، حتى لو لم تُشمل في السردية الحداثية التي تدّعي الشمولية العالمية والمعولمة، يُدلّل على ذلك مثلاً عرضُ قطعة مزركشة من السجّاد وتعليقها بجانب اللوحات والأعمال الفنّية، وتوقيعها باسم مجهول.
وكذلك ورثت الشعوب المستعمَرة سجّاداً وأثاثاً وعمائر وتحفاً وأواني بديعةً ومبتكرة ومدهشة، صمّمها ونفّذ تصاميمها فنّانون وحرَفيّون مجهولون، ولكونهم مجهولين ولكون فنّهم انتقل شفهياً ولم يُدوَّن في الموسوعات، لا ينفي أحقّيته في المشاركة في تصميم عوالم الزمن الحديث، وأحقّية ورثتهم في الحفاظ عليه ودراسته وتطويعه لواقعهم الجديد.