تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، كتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. العمل من آخر ما ترجمه الأسعد قبل رحيله المفاجئ في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي. هنا الجزء الأخير منه.
مدن مخفية (4)
خرّبت غزوات متواترة مدينةَ ثيودورا عبر قرون من تاريخها؛ فما إن يُهزم عدوّ حتى يكتسب آخرُ قوّة ويهدّد الناجين من السكّان. حين تمّ تطهير السماء من النسور الضخمة، كان عليهم مواجهة تكاثر الأفاعي؛ وسمحت إبادة العناكب للذباب أن يضاعف أعداده متحوّلاً إلى سرب أسود؛ وترك الانتصار على النمل الأبيض المدينةَ تحت رحمة دود الخشب. كان على الأنواع المتنافرة مع حياة المدينة أن تموت، فانقرضت. وبفضل تمزيق الحراشف والدروع العظمية، واقتلاع الأجنحة والريش، مَنح الناسُ ثيودورا صورةَ المدينة الإنسانية الحصرية التي ما زالت تميّزها.
ولكن في البداية، ولسنوات عديدة مديدة، لم يكن مؤكّداً ما إذا كان النصر النهائي سيكون أو لا يكون من نصيب آخِر الأنواع الذي تُرك ليحارب ملكية الإنسان للمدينة: الجرذان. لقد ولّدت القوّة الناجية من كلّ جيل من أجيال القوارض التي استطاع الناس إبادتها، سلالةً أكثر خشونة، منيعة على المصائد ومُقاومة لكلّ أنواع السموم. في ظرف بضعة أسابيع، ازدحمت مجاري ثيودورا مرّةً أُخرى بقطعان من الجرذان المتكاثرة. وفي النهاية، وبمذبحة بالغة الصرامة، دَحرت براعة البشرية القاتلة ومتعدّدة الاستخدامات قوّةَ حياة العدوّ المفرطة.
أُغلقت المدينة، مقبرة مملكة الحيوان العظمى، وتمّ تعقيمها بعد دفن آخر الجثث مع آخر براغيثها وجراثيمها. وأعاد الإنسان أخيراً إنشاء نظام العالم الذي هو ذاته مَن أفسده؛ لم يبق موجوداً أي نوع حيّ ليلقي أية شكوك. ومن أجل أن تتذكّر ثيودورا ما كانت عليه حيوانات الحقَب الماضية، ستحتفظ مكتبتها فوق رفوفها بمجلّدات بوفون ولينايوس.
يتعرّفون على بعضهم من طريقتهم في لفْظ الجُمل المعترضة
هذا هو على الأقلّ ما اعتقده سكّان ثيودورا، بعيدين عن تخيل أن حيوانات حقبة منسيّة كانت تستفيق من سُباتها. حيوانات الحقبة الأخرى هذه، وقد أُبعدت طيلة عصور مديدة إلى أماكن مخفية بعيدة منذ أن عزلها نظام الأنواع اللامنقرضة، كانت تعود إلى الضوء من أقبية المكتبة حيث حُفظت الكتب القديمة؛ كانت تقفز من تيجان الأعمدة وأنابيب الصرف، وتجثم على جوانب أسّرة النائمين. كانت الكائنات الخرافية، السفنكسات والغرافين والكميرات والتنانين والهركوسيرفيات والخطّافات والأفعوانات ذات التسعة رؤوس ووحيدات القرن والباسلسقات الزاحفة، تُباشر امتلاك مدينتها.
■ ■ ■
مدن مخفية (5)
ليس عليّ أن أحدثكَ عن بيرينس، المدينة الظالمة، المتوّجة بمستطيلات بارزة في الأفاريز، بقواعد تيجان، تتوسّط الفراغ بينها تُروس آلات فرم اللحم المسنّنة (يشعر الرجال الموكلون بالتلميع ــ حين يرفعون ذقونهم فوق الحواجز المشرفة ويتأمّلون الأروقة ذات الأعمدة والسلالم والردهات ــ بقِصَر القامة، بل ويزداد شعورهم أنهم مسجونون). بدلاً من هذا، عليّ أن أحدّثك عن بيرينس المخفية، المدينة العادلة وهي تعالج بدائل مؤقّتة من المواد في الغرف الظليلة خلف الدكاكين وتحت السلالم، وهي تصل بين أجزاء شبكة من أسلاك وأنابيب وبَكَرات ومكابس وأثقال موازنة تتغلغل مثل نبتة متسلّقة بين العجلات المسننة الهائلة (حين تلصِبُ العجلات، تنبّه تكّة مكتومة إلى أن آلية جديدة محكمة تحكم المدينة).
بدلاً من أن أصف لك أحواض الاستحمام المعطّرة حيث يتكئ ظالمو بيرينس ويحيكون مكائدهم ببلاغة طنّانة ويراقبون بعين صاحبِ أملاكٍ أجسادَ المحظيات الممتلئة، عليّ أن أقول لك كيف يتعرّف العادلون، وهم متنبّهون دائماً لتجنب المنافقين المتجسّسين واعتقالات الانكشارية الجماعية، على بعضهم بعضاً من طريقتهم في الكلام، وبخاصّة تلفّظهم للفواصل والجمل المعترضة، من عاداتهم التي تظلّ بريئة وبالغة البساطة، متجنّبةً الأمزجة المعقدة والعصبيّة، من مطبخهم المعتدل ولكن الطيّب المذاق، ذلك الذي يستحضر عصراً ذهبيّاً قديماً: رزّ وحساء كرفس، لوبياء مسلوقة، ومسحوق زهور مقلية.
من هذه المعلومات يمكن استنتاج صورة بيرينس المستقبل، معلومات ستقرّبكَ من معرفة الحقيقة أكثر من أيّة معلومات أخرى عن المدينة كما تشاهَد في هذه الأيام. ومع ذلك، يجب أن تتذكّر ما أنا على وشك قوله لك: في بذرة مدينة العدالة تختبئ من جانب آخر بذرة خبيثة: اليقين والكبرياء بكونِ المرء على صواب، وبكونه أكثر عدلاً من عديدين آخرين يطلقون على أنفسهم تسمية الأكثر عدلاً من العدل. هذه البذرة تتخمّر في المرارة والامتعاض والتنافس؛ وتتلوّن الرغبة الطبيعية بالانتقام من الظالمين بتوقٍ إلى الحلول محلّهم والتصرّف كما تصرّفوا. إن مدينة ظالمة أخرى، رغم اختلافها عن الأولى، تنقّب عن فضاء لها داخل غمد بيرينس الظالمة وبيرينس العادلة.
كلّ ما أحتاجه التماعة ضوء وحوار عابرين يلتقيان في الزحام
لا أرغب، وأنا اقول هذا، أن تُمسك عيناكَ بصورة مشوّهة، ولذا يجب أن ألفت انتباهك إلى ميزة جوهرية لهذه المدينة الظالمة تنشأ سرّاً داخل المدينة العادلة السرّية: اليقظة الممكنة لحبّ لاحقٍ للعدالة، كما لوأنه فتْحٌ مثير لنوافذ، لم يخضع للقواعد بعد، قادر على إعادة تركيب مدينة هي أكثر عدالةً ممّا كانت عليه قبل أن تصبح وعاءً للظلم. ولكن إذا أنعمتَ النظر أعمق في جرثومة العدالة الجديدة هذه، تستطيع أن تتبيّن نقطة صغيرة تنتشر مثل الميل المتعاظم نحو فرض ما هو عادل بوساطة ما هو ظالم، وربما هذه جرثومةٌ عاصمةٌ عظيمة...
من كلماتي ستصل إلى نتيجة أن بيرينس الحقيقية هي تراث مؤقت لمدن مختلفة، عادلة وظالمة بالتناوب. ما أردته هو تنبيهك إلى شيء آخر: كل "بيرينسات" المستقبل حاضرات سلفاً في هذه اللحظة، ملفوفة إحداها بالأخرى، محتجزة، محشورة، لا سبيل إلى انفكاك إحداها عن الأخرى.
■ ■ ■
يحتوي أطلس الخان الأكبر أيضاً على خرائط الأراضي الموعودة التي تمّت زيارتها بالفكر ولكنها لم تُكتشف بعد أو لم تتأسّس: أطلانتس الجديدة، يوتوبيا، مدينة الشمس، أوشانيا، تاموي، هارمونيا الجديدة، لانارك الجديدة، إيكاريا.
سأل قبلاي ماركو: "أنت يا من تتجول مسكشفاً، ومَن يشاهد علامات، هل تستطيع أن تقول لي نحو أيّ من هذه المستقبلات تدفعنا الرياح المواتية؟".
"إلى تلك الموانئ التي لم أستطع رسم طريق إليها على الخريطة أو وضع تاريخٍ للهبوط فيها. أحياناً كان كل ما أحتاجه لمحة سريعة، فضاءً مفتوحاً وسط مشهد متنافر الأجزاء، التماعة أضواء في الضباب، الحوار بين عابرين يلتقيان في الزحام، وأعتقد أنّني بالانطلاق من هناك سأركّب المدينة الكاملة قطعة قطعة، مؤلّفة من شظايا مختلطة بالبقية، من لحظات تفصل بينها فترات راحة، من إشارات يرسلها المرء غير عارفٍ مَن يتسلمها. لو أخبرتكَ أن المدينة التي تسعى إليها رحلتي غير متواصلة في الزمان والمكان، مرّة متناثرة، ومرّة أكثر كثافة، لوجبَ عليك ألّا تؤمن أن البحث عنها يمكن أن يتوقّف. ربما هي آخذة بالظهور الآن ونحن نتحدّث، موزعةً في نطاق إمبراطوريتك؛ يمكنك التفتيش عنها، ولكن بالطريقة التي قلتها فقط".
خلال هذا كان الخان يتصفّح أوراق أطلسه، منكبّاً على خرائط المدن المهدِّدة في الكوابيس واللعنات: إينوش، بابل، أرض ياهو، بوتوا، عالم جديد شجاع.
قال: "كل هذا عديم الجدوى إنْ كان مكان الهبوط الأخير ليس سوى المدينة الجهنّمية، وإلى هناك يسحبنا التّيار في دوائر تضيق وتضيق باستمرار".
فقال بولو: "جهنم الأحياء ليست شيئاً سيكون؛ إن كان ثمة وجود لجهنّم، فهي ما هو موجود هنا سلفاً، جهنم هي حيث نحيا كلّ يوم، جهنم هي تلك التي نُنشئها بكوننا معاً. وللإفلات من معاناتها، هناك طريقان؛ الأوّل سهل على الكثيرين: ارضَ بجهنّم وصِرْ جزءاً معيّناً منها بحيث لا يعود بإمكانك أن تراها. والثاني خطِرٌ ويتطلّب يقظة دائمة وخِشيةً: ابحث وتعلم التعرّف في وسط جهنم على مَن وما هو ليس جهنماً، ثم اجعلهما يواصلان البقاء، أعطهما فضاءً...