عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثًا كتاب "من عكّا إلى تكساس: مذكّرات قسطنطين أسعد سيقلي (1861 - 1925)"، بتحقيق وتهميش الباحث السوري من أصل فلسطيني تيسير خلف؛ عملٌ يقع في 248 صفحة ويحتوي مقدّمة وعشرين فصلًا وخمسة عشر ملحقًا تتمحور حول مذكرات مسيحي فلسطيني مخضرم، عايش الفترتين السلطانية والتنظيمات.
يتناول سيقلي في هذه المذكّرات نُبذًا من حياة عائلته وحياته الشخصية ونجاحاته وهجرته، وظروف السلطنة خلال الفترة الانتقالية وحياة المسيحيّين فيها، متطرّقًا إلى هجرته وظروفها، وإلى هموم العيش في أميركا، وإلى بعض الحديث في السياسة، والجمعيات، والقوانين الانتقالية، والعلاقات العربية - العثمانية. يقع الكتاب في 248 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
كمَا يروي قصّة أوّل فرقة مسرحية في فلسطين، وعدد المسرحيات التي مثلتها وأسماءها بين عامَي 1880 و1883، ومعلومات مهمّة عن ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتفاصيل مسهبة من النادر إيجادها في مذكّرات مهاجر عربي من ذلك الزمن.
كُتبت المذكّرات بين عامَي 1926 و1928 بلغة عربية فصيحة تنتمي إلى طرائق الإنشاء السائدة وقتذاك، ولذلك يمتلئ النصّ بصياغات تركيبية وإملائية لم تعُد مستخدمة في لغتنا المعاصرة. ويوضّح المُحقّق أنّه حافظ على الصياغات الأصلية إلى حدّ بعيد، شارحًا بعضها، لا سيّما العثمانية منها، ومصوّبًا بعض الأخطاء الإملائية والنحوية الناتجة من سرعة الكتابة.
تتضمّن معلومات مهمّة عن ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا أواخر القرن التاسع عشر
ويندرج ضمن نمط كتابة تواريخ العائلات، الذي نشط فيه مثقّفو العائلات ومؤرّخوها، مثل عبد القادر العظم وعيسى إسكندر المعلوف وغيرهما، وهي اهتمامات ظهرت مع تعمّق الإحساس بالهوية السورية العربية، في ردِّ فعل على فكرة الهوية التركية الطورانية التي أُريد تعميمها على عرب الدولة العثمانية، إلّا أنّ ما يميّز الكتاب عن غيره من كتب التواريخ العائلية هو زيادة الجانب المذكّراتي فيه على ثلثي حجمه.
حازت عائلة قسطنطين سيقلي المسيحية ملكيات متوسطةً وبعض الثروة إثر تطبيق قانون الأراضي العثماني خلال مرحلة التنظيمات العثمانية. وبعد هجرة والده أسعد سيقلي من الناصرة إلى حيفا بعد خروج قوّات إبراهيم باشا نهائيًّا من سورية عام 1841، عمل في مينائها بتجارة الحبوب، قبل أن ينتقل بعد عام 1865 إلى عكّا، التي كان مرفؤها في ذلك الوقت منفذًا تجاريًّا لبلاد حوران وما جاورها في الداخل، فتوسعت تجارته، وراكم رأسَ مالٍ معتبَرًا، واشترى أراضيَ واسعة، منها إحدى دُور والي عكّا السابق عبد الله باشا، كما أصبح ملتزمًا لتجارة التجزئة، ولضرائب الأسماك المفروضة على الصيادين، فأصبح من أصحاب الشأن في الجليل ومن أبرز الوجوه الأرثوذكسية فيها.
بعد موت أسعد، سرعان ما تدهورت القدرة المالية للعائلة وبدأ نجمها في الأفول، ليس بسبب موت الوالد فحسب، بل لعوامل أخرى ذكرها قسطنطين، منها تراجع مكانة عكا التجارية بسبب ربط خط حديد حيفا بجنين والشام، إضافةً إلى عدم حفاظ الأولاد على مكتسبات الوالد وتنميتها، وخصوصًا الشقيق الأكبر، الذي استأثر بالثروة ثم بذّرها.
تَرافق صعود عائلة أسعد سيقلي وأفولها مع حكم السلطانَين عبد العزيز وعبد الحميد الثاني، وأسوة بالأسر المسيحية واليهودية، بحثت مستفيدةً من نظام الامتيازات عن حماية لدى الإمبراطورية الروسية التي طرحت نفسها حاميةً للأرثوذكس منذ معاهدة كوجك قينارجه (1774)، في حين حمى الإنكليز الدروز، والفرنسيون الموارنة. ولعلّ هذا ما تسبّب في ظهور إشاعة الأصل الروسي للعائلة وهجرة جدها الأكبر جرمانوس من روسيا حاجًّا إلى الأراضي المقدّسة في عام 1634 وحزنًا على وفاة زوجته كاترينا، في حين يدحض هذه الروايةَ عدمُ وجود قبر لجرمانوس المدَّعى أولًا، وأن حركة الحج الروسية الجماعية لم تبدأ إلا في القرن التاسع عشر، وكذلك ورود ذكر الأصل الحوراني لهذه الأسرة لدى كثير من مؤرخي تلك المرحلة، وقرابتها مع عائلات أرثوذكسية في دمشق وبيروت وجبل لبنان، ويؤيد هذا الكلام ما ورد في المذكرات نفسها من استضافة "ابن عم" للوالد يقطن في بيروت إياه عند مرضه. أما العامل الأخير وليس الآخِر، وقوف قسطنطين نفسه في حياته بقوةٍ ضد إتباع الأرثوذكس المهاجرين إلى أميركا لبطريركية موسكو، لأنه لم يكن يؤمن بأصله الروسي.
وتدلّ المذكّرات على المنشأ الفلاحي لعائلة سيقلي، فتذكر علاقة أفرادها الطيبة أثناء صعودها المالي وبعده مع مزارعي أراضيهم، ما يدل على بعدهم عن ممارسة تقاليد إقطاعية كالتي تشهدها الأرياف المصرية والحلبية على سبيل المثال، فالمذكرات تحدّثنا عن علاقة أشبه بالعائلية بين والد قسطنطين وعمه صالح وبين المزارعين، ومشاركتهم المناسبات الاجتماعية لكلا الطرفين، وتولّي قسطنطين نفسه قضايا لفلاحي قرى ناحيته حين أصبح محاميًا ضد فؤاد سعد، أحد ملّاكي حيفا الكبار ونخبها، إضافة إلى اتصافهم بالتعصب للعائلة ورابطة الدم والقرابة، والتعاضد الأسري، والمبالغة في إظهار الحزم، والكرم الحاتمي، وكلها صفات تدل على الأصل الفلاحي الذي نتحدث عنه.
وتتطرق المذكرات إلى اندماج أبناء العائلة الذين تلقّوا التعليم العالي في البيروقراطية العثمانية بعد سَنّ قانون الولايات العثماني (1864)، مترجمين في مركز الولاية والمتصرفيات والقنصليات، أو أعضاء في هياكل الدولة والمتصرفيات والأقضية الإدارية، أو مساهمين في تنفيذ توجيهات مدحت باشا بتأسيس العمل الجمعياتي، إذ أسّس راجي سيقلي (أخو قسطنطين) أول جمعية ثقافية في فلسطين باسم "الجمعية الأدبية" (1880)، ومن رحمها وُلدت الفرقة المسرحية الأولى في فلسطين التي كان قسطنطين بطلَها ونجمَها الأول.
واللافت أنّ "الجمعية الأدبية" التي يشي اسمها بالبعد عن الهوية الطائفية سُميت بعد عام واحد من انطلاقتها باسم "الجمعية الخيرية للروم الأرثوذكس"، وفي تغيير ثالث إلى "جمعية إغاثة المسكين" النسوية.
وكان طموح راجي سيقلي ومثقفين كبار كثيرين أمثاله، كما ورد في المذكرات، أكبر من واقع مدنهم، وبحجم ولاية سوريا كلها، وليس أدل على ذلك من مشروع راجي الكبير بتأسيس فرقة مسرحية كبرى تمثّل قصص أبطال العرب في ميادين خيل، وملاعب شاسعة، يشارك فيها مئات الفرسان من الفلاحين والبدو، ويصنع إكسسواراتها حرفيون من مدينة دمشق، وهي التجربة اللافتة التي حظيت برعاية السلطان عبد الحميد شخصيًّا، حتى نالت اهتمام الجمهور الأميركي، الذي استقبل الفريق الفلسطيني الضخم في شيكاغو في عام 1893.
تروي قصّة أوّل فرقة مسرحية في فلسطين وأعمالها بين عامَي 1880 و1883
ولم تتوقف طموحات راجي بعد عودته من أميركا في عام 1894 عند ذلك، فحلم بتأسيس مجلة عربية ساخرة متخصصة في فن الكاريكاتير، لكنه لم يحقق حلمه إلا في القاهرة مطلع القرن العشرين. وأعلن راجي ترشحه لمجلس المبعوثان في عام 1909 لتمثيل متصرفية عكا، لكنه خسر المنافسة أمام الشيخ أسعد الشقيري.
وتحضر في المذكّرات ظلال فتنة عام 1860 المؤسفة من خلال حارة النصارى المنفتحة على أفقها الطائفي المنغلقة في وجه محيطها الديني المختلف، وأيضًا من خلال ذكريات صاحب المذكرات عن والدته حين كانت تقصّ عليه أخبار التهديدات التي كانت توجَّه إلى حارة النصارى في حيفا من الجوار الطائفي المختلف الذي كان يتحفز للانقضاض عليها واقتسام أسلابها. كانت الدول الأوروبية في العقل الباطن لوالدة قسطنطين المنقذَ الوحيد من تلك التهديدات، في حين أن مَن منع الاعتداءات على حارات النصارى كان في الحقيقة شيخًا بدويًّا مسلمًا يُدعى عقيلة الحاسي. ومع تجدد الشائعات عن عزم المشاركين في الحركة الارتجاعية ضد الدستور في عام 1909 على قتل مسيحيي عكا، هاجر صاحب المذكرات إلى الولايات المتحدة.
ويُعرّف قسطنطين نفسه في مذكراته طوال الوقت بأنه سوري ومتجذّر في الثقافة العربية، سواء خلال حياته في سوريا وبيروت أو في الولايات المتحدة. ويظهر المحتوى الثقافي العميق لهويته السورية جليًّا في استحضاره أشعار العرب وأمثالهم القديمة، واستشهاده بشخصيات معروفة في التراث العربي، وتمثُّله سِيَرَ أبطال العرب التقليديين، أمثال عنترة بن شداد، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي وغيرهم، متأثرًا بمجالس والده مع زوّاره وضيوفه، والحكواتي وقصصه عن أبطال العرب فيها. ويؤكد قسطنطين في المذكرات أن عكا والناصرة وحيفا وبقية مدن الجليل وقراها جزء من فلسطين، وأن فلسطين لا تتجاوز أفقًا هُوياتيًّا أوسع يضمّ بلاد الشام، ومن هنا تتبيّن أهمية هذه المذكرات وكونها أحد كتب السِّيَر النادرة لفلسطينيي القرن التاسع عشر قبل ظهور خطر الحركة الصهيونية وتعاظمها، وأظهرت تشكيل ثورة 1936 ثم نكبة 1948 بعدها عواملَ حاسمة في تبلور هوية فلسطينية ذات طابع مقاوم.