تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم وأحوال الترجمة إلى العربية اليوم. "ينبغي التحرُّر من خرافة أننا لا نجد باللغة العربية نفس المصطلحات المقابلة للّغات اللاتينية والأجنبية بشكل عام"، يقول المترجم العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
الترجمة عندي بمثابة لقاء، وهي تنطوي على كلّ مخاطر اللقاء الحقيقي وتحوّلاته ومزالقه، وتنطوي أيضاً على المعنى والمعنى المضاد، الفهم والفهم المغلوط عَمداً؛ أي أنها تنطوي على كلّ مخاطر التأويل. أنا أتحدّث بطبيعة الحال عن الحقل الإبداعي والروحي الذي لم أُترجِم أي شيء خارجه، وبشكل أدقّ ما بين الأدب والفلسفة. وممارسة الترجمة ضمن بُعدَي الأدب والفلسفة تجعل المترجم، وحتى القارئ، مثلما تقول سيمون دي بوفوار، ممزّقاً ما بين ثراء الشعر وصرامة المفهوم. لذا يمكن القول بأن فعل الترجمة لديّ محدَّدٌ بدقّة، من البداية، ضمن هذين البُعدين فقط.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
صدر لي أخيراً، وبذات الوقت، كتاب "نيتشة والفلسفة" لـ جيل دولوز وكذلك "واط" و"مورفي" لـ صامويل بيكيت. الكتاب الذي أعمل عليه الآن هي الرواية الأولى التي كتبها بيكيت، والتي تحمل عنوان "حلم جميل لامرأة في منتصف العمر"، وسيصدر عن دار "المدى". هذه الرواية، حسب ظنّي، لا تنطوي على تجريبية بيكيت المذهلة وحسب، وإنما أيضاً على ما يسمّيه الكاتب "الاقتصاد الأشدّ راديكالية"، أي، في الجوهر، الزهد الأكثر راديكالية، أو الكتابة بإزميل النحّات.
الترجمة عندي لقاء، وهي مثل اللقاء تنطوي على مخاطر
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
ليس هناك أي عائق أمام اللغة العربية في ترجمتها للنصوص الأكثر ثراءً وتعقيداً باللغة الفرنسية والإنكليزية. أنا شخصياً، وببساطة، منبهرٌ بما ترفدني به هذه اللغة. كذلك ينبغي التحرُّر من وهم وخرافة أننا لا نجد في اللغة العربية نفس المصطلحات المقابلة للّغات اللاتينية والأجنبية بشكل عام. هذه الخرافة، التي شاعت في أعوام الستينيات، انتهت تماماً. مرّةً أُخرى، أنا شخصياً مسحور بالشهيّة العظيمة للعربية. ومع أننا لسنا على صعيد المقارنة ما بين العربية واللغات الأُخرى، لكنّني لن أنسى ما قاله لي الصديق والكاتب نجيب المانع: "لقد اكتشفت أن ترجمة جورج طرابيشي لرواية هنري باربوس 'الجحيم' أكثر جمالاً ومتعةً من النصّ الأصلي!"؛ وهذا ما تحقّقتُ منه شخصياً في فرنسا.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
كتاب إميل زولا الضخم، أي "الرواية ومسائل أخرى"، هو الوحيد الذي يمكن القول إنه قد تمّ تحريره، وهو أحد الكتب التي كان يشرف على تحريرها الصديق الشاعر والأكاديمي كاظم جهاد.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
شخصياً، أنا بعيد عن هذا الميدان أو التجربة، وكلّ دور النشر التي تعاملت معها لم تعترض على ما أختاره من عناوين، ربما لأن دور النشر هذه تعرف أن الترجمة لديّ، كما قلتُ، بمثابة لقاء ينطوي على مخاطر.
منبهرٌ بما ترفدني به اللغة العربية
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
في عالمنا العربي يبدو الأمر مع أيّة خطوة نقوم بها حيال الواقع وكأنّها خطوة ملغومة، أي أنها تتحرّك في حقل من الألغام (السياسة والدين والجنس). المبدع العربي، على صعيد الرواية والشعر والترجمة، يعرف إلى أيّ مدى قد استُهلكت مواضيع مثل هذه، ومنذ زمن قديم. لكنْ، مع ذلك، يبقى الأفق مغلقاً ومعتماً.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
يقول تي إس إليوت: "نحن نشتري الكتب لأنه لم يعد لدينا أصدقاء". يمكن أن نقلب معادلته بحيث نُعطي أنفسنا حرّية القول: ليس هناك مِن كتب إلّا تلك التي تُصادقنا. الاثنان، الكتب والأصدقاء، ينطلقان من انفعال المغامرة والقبول بها، أي نحن نرغب بمَن يرغب بنا، وهذا يعني حفاظنا عليهما.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
قبل الترجمة، أنا شاعر، وهذه الإشكالية قديمة جدّاً، بل هي نوعٌ من الصراع ما بين الشاعر والمفكّر. الانفعال الأوّل انفعالٌ شعريّ، ولكن بالرغم من أولويته، لم يكن قادراً على تغطية المساحة التي تحتلّها الترجمة أو المترجم. أي أن الشاعر لن يخنق المترجم، ذلك ربما لأن كلّاً منهما معلّقٌ بالآخر.
لا يشرّف المبدعَ إلّا مبدعٌ آخر، لا الدول أو الجوائز
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
لن نقترب من هذه المنطقة لاعتبار بسيط: الجوائز جزءٌ من عملية التسويق العالمية المبتذلة. لا يشرّف المبدعَ إلّا مبدعٌ آخر، لا الدول أو جوائز وزارات الثقافة والإعلام.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
لا أعرف أشياء كثيرة عن الترجمة، ما عدا ما قمتُ بترجمته؛ أي الانفعال والحماس والآخر، عندما يتمّ التعامل مع مفردة حماس باعتبارها فعلاً حقيقياً وليس عاطفة غامضة. ينبغي التحرّر من المقولة الإيطالية بأنّ المترجم خادمٌ لسيّدين: سيّد النص الأوّل الأصلي والسيّد الآخر الذي يتلقّاه. ليس هنالك من خدمة تقدّمها الترجمة سوى الرغبة والحبّ، وليس فقط المعرفة والمعلومة، لأن الترجمة عمل إبداعي يتلمّس طريقه كما يتلمّس المؤلّف الحقيقي طريقه بالإبداع. وهذا يعني لدينا أن المترجم ليس مُلْحَقاً بالمؤلّف، بل المؤلف هو الذي يلحق بالمترجِم. النص يُلاحق المترجم ويدعوه: ترجمني!
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
الترجمة لدي لقاءٌ، مرّةً أُخرى، ويأتي جوهر اللقاء لاحقاً، أي أنني لا يمكن أن أتخيّل نفسي وفي رأسي مبادئ أو قواعد ومعايير، أو أنْ أحكم على العمل عبر هذا المنظور المزيّف، أو على الأقل الوهمي أو المتصوَّر، أو أن أُخضع النص لهذه الاشتراطات. كل ما يُكتشَف من قواعد وتقنيات هي عملٌ مشترَك. لن أتنازل عن القول إن نصّ المؤلّف يحتاجني. أمدّ يد العون له انطلاقاً من مطالبته الملحّة، وهذا يعني أيضاً تأثيره فيّ.
لا عائق أمام العربية في ترجمتها للنصوص الأكثر ثراءً
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته، ولماذا؟
بودّي بالأحرى أن أقول شيئاً ما عن حبّي لعملٍ ما بدلاً من ندمي على عملِ شيءٍ. أن أتحدّث قليلاً عن ترجمة مؤلَّف لـ جيل دولوز لأوّل مرّة إلى اللغة العربية، أي ترجمتي لكتابه المعنون "بروست والإشارات"، والذي وضعتُ له مقدّمة مطوّلة نسبياً، قبل 14 سنة. وما زلتُ أقرأ صفحات منه، من حين إلى آخر، وفي كلّ مرّة أكتشف بأن حماسي لكتاب دولوز هو نفسه حماس دولوز حيال بروست، وهذا لا يعني بالضرورة تطابق القراءتين، ولكن التطابق تقريباً في الرغبة والحماس.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
ألتمس أن تقبلوا منّي القول بأني أتعامل مع الترجمة كعُرسٍ أو عيد للفاعلية والفكر: العمل وحبّ العمل. ليس على الصعيد الكمّي للإنتاج، إنّما كرغبة صادقة في إدامة العيد أو العرس. التنبّؤ الوحيد الممكن، أو الحلم الوحيد، هو أن يبزغ في الأجيال الحالية أو القادمة مترجمون مبدعون لا يتعاملون مع عملهم وكأنه أقلّ إبداعاً من عمل المؤلّف. مترجمون غير ملحَقين بأحد، يرقصون مع المؤلّفين في نفس وذات الحَلَبة: حلبة العمل.
بطاقة
مترجم وشاعر عراقي من مواليد العمارة عام 1943، مقيم في باريس. عمل في الصحافة الثقافية ونقل إلى العربية عدداً كبيراً من الأعمال الفكرية والأدبية، مثل "نيتشة والفلسفة" و"بروست والإشارات" لـ جيل دولوز، و"الأدب والشر" لـ جورج باتاي، و"مالون يموت" و"واط" و"مورفي" لـ صامويل بيكيت، و"أخْذُ موقف الأشياء" لـ فرانسيس بونج، إلى جانب ترجمات لـ آلان باديو، وغاستون باشلار، ومارغريت دوراس، وفيرجينيا وولف، ود. هـ. لورانس، وغيرهم.