لِمَ كلّ مرّة، في مطالع النعاس، يحدث التلاشي الخفيف والسهل لكلّ حقائق الحياة؟ هذا الأسبوع: من الأربعاء إلى الأحد. أتكون هي رحلة عاطفية وجمالية، تهدف إلى توضيح زيادة حالات الانتحار بين شباب اللاجئين (في مخيّم غير مخيّمنا، انتحر لاجئ أفغاني شاب، قبل أسبوع. واليوم مات زميلنا ومواطنُنا في "مصحةّ سيبا" الشاب محمد فنونة، ببعض الحبوب)، أم هي مجّرد دَور في شركة، نؤدّيه كما كُتب علينا، ثم نمضي؟
لمَ تبدو في أوقات، قطعة عن الخِفّة، عن غير المتّسق الزائل أو سريع الزوال أو المؤقّت، في ما يتعلّق بجسمنا وتفاعلاتنا؟ في الجزء الأول من عرْض الحياة، هل يبدو الجسد وكأنه مجبَر على إظهار نفسه، قبل الانتقال إلى الجزء الثاني متقدّمًا عبر التضاريس المُهَلْوسة. في الجزء الأخير، يختفي الخيال ولا تظهر الحِيلة بانفجار الواقع، فيزنُ الجسم مرّة أُخرى، أقلّ فأقل، وتنسحب نداءات الرغبات، ويتعرّق، ويتعب، كمقدّمة للرحيل.
الحياة بمَكرها التاريخي تُقرّبنا من الموت، وتَجعلنا على الأقل نقبله، مستسلمين لسُننِ الطبيعة، بألّا دوام لأحد. التفكير في الأنانية والفردية في مجتمع اليوم أمرٌ غير مريح. إنه أوّل عرْض لها بعد أن قام أعضاؤها بتصوير أعمال قصيرة، وشوهدت بالفعل في مراكز مختلفة من المدينة، والمناطق المحيطة بها. هل توضَّح الحياة بمفهوم الشركة: أن هذيانها نقدٌ لأنانية مجتمع اليوم؟ كيف نمرّ في الحياة دون أن نفتح أعيننا حقًا خارج السرّة، كيف نسير دون مراقبة كلّ شيء من حولنا، ولِم أَوْكلنا هذا للكاميرات، الآن؟ كيف نتّبع الجماهير وكيف نتحرّك وننظّم بينهم بعض المبادئ والقيَم؟ مَن نحن لنُفسد الطيِّب ونحوّل الشرّير قدوةً؟ إذا قلنا إنه على مدار العرْض البصري للعُمر، يتطوّر المرء إلى كائن يفتح عينيه، ويبدأ في التحرّك في المجتمع، بطريقة تعاونية ومؤثّرة، وبالتالي جَعْل المجتمع أفضل مثاليًا ــ ألا يُعتبر هذا أكاذيب؟
اعتقدنا أننا بخير ما دامت الغابات من دير البلح إلى رفح بخير
مَن نحن في الموت، مَن نحن على حافة الحياة؟ هل الإنسان هو ذاك الأعزل بعد الموت؟ هل سيتمّ إغلاق الدورة قريبًا؟ هل تُسدل الستارة بلا مسرح وبلا ممثّلين؟ لِمَ البنت إيما فاسكيز، مع صديقها الموسيقيّ لا يكونان قطعةً تولّد جسورًا بين الثقافات من المنظور الجنساني؟ هل تهدف من وراء عرضنا على بعضنا البعض، إلى تنظيم ما يجعلنا نساءً بحقّ ورجالًا بصدق: أنّنا فانون؟
هل إعادة تأكيد أنّ الخير في العائلة والقبيلة وأنّ الحاجة إلى سبُل العيش خارج الهياكل العائلية أمران لا يتناقضان؟ لِمَ لا نفتتح بعض الفجر بمونولوغ حميم من خلال ذكريات حيواناتنا الأليفة، أيام الطفولة وخُمّ الدجاج والبطّ في البيت الصغير؟ أليس ما نرى الآن هو الغابة تُلاصق البيت في تيسندرلو، تحدب عليه وعلى ساكنيه؟ أليست هذه لحظة الحلم وقد تحقّقت؟ ألا أيتها الطبيعة ليتَ لدينا المُكْنة لنتماهى بكِ. نصير ورقة شجر من أشجارك الكثّة، عصفورًا بين أغصان الأفنان، نبضةً من رحْمك الخلّاق، واهب كل الكائنات قوتَها، دون إملاق. إن الدراما هي ألّا نعيش بين ظلالك ونباتاتك، وأن نقطن علب الإسمنت في المدن العدوانية الجهمة. هل أنتِ في المجال الخاصّ؟ دعينا نقول كلّ شيء. والحقيقة ألّا آلهة سواك، لو كنّا نفقه الأساسيات. هل ما نفعله الآن هو استعادة وتصنيف وتخيُّل بعض تلك الدفاتر التي كنّا كتبناها، منذ أن كنّا طلبةَ إعدادية وثانوية في الأحراش، حيث الغابات والبحر من ورائها، وحيث تلال الرمال التي لا أنظف ولا ألمع، كثبان تتوسّدها أو تفترشها فتحسّ بحنوّها السابغ عليك؟
خان يونس القديمة، وأحراشها الآن لا أحد يعرفها، بعد أن أزال المستوطنون وقوات جيش الاحتلال كلّ أشجارها الغابوية، ولم تتبقّ منها شجرة واحدة. لِمَ منذ سنّ التاسعة كانت الأحراش هي الملجأ والمعتكف والملاذ وأصفى ساعات العمر؟ لقد استمرّ هذا حتى خروجنا إلى مصر وعودتنا، فإذا بتلك الغابات، محلوقة على الصفر، ولا يلمع فيها غير لون السوافي الأصفر، بعدما كانت تلمع فيها أوراق شجر الأكاسيا والكينا، بزهورها الصفراء الفاتنة.
عِشرة عمر انتهت بنزوة مستوطنين هم أعداء الحجر والبشر والشجر، جاءوا وبنوا مزارعهم وبيوتهم وحتى جامعة ما. لهذا، عندما عدتُ من مصر ورأيت ما حصل، بكيتُ والله. مرتفع الطفولة والمراهقة أوّل الشباب، تعيش أنت، عندما كان للمرء أول كوخ في العُمر، عندما كانت له صداقات عميقة مع شجرات معيّنة، يختارها بعناية ويبتني غير كوخ تحتها، لينامَ في قيلولة العصاري، بعد الرجوع من المدرسة. أوّل حب عانينا من تبِعاته كان هناك أيضًا، وكان لتلك الرمال الذهبية حقًا وقعُ السحر على الروح والتخدير على الجسد والحواس. لقد فقهنا هناك معنى الطبيعة الأم الرؤوم، معنى الرحم النباتي وكيف يكون بمثابة جنة خضراء، خضراء يا أرض، حتى بلوغ سدرة النشوة العليا، وأنه منذ حوالي نصف قرن إلّا قليلًا، اعتقدنا أننا بخير ما دامت هذه الغابات الممتدّة من دير البلح حتى رفح، بخير.
إن كل هذا يُمكن أن يكون قصة في ما بعد، رغم أنه كان أول الحوافز لكتابة الشعر، بعد تتالي القراءت والشغف بعوالم الأدب، وبخيالها الذي يعوّض عن فقر الواقع. هي بابٌ وانفتح لنا، ومن خلاله عرفنا أن مصيرنا هو الأدب، ولا شيء سواه سوى تعلّات وتمشاية حال أو رزق. أعطنا يا ربّ كفاف يومنا من خُبز وكتب، ودَعْ هذا الطارئ الجنيني الجميل، يتسيّد كل آمال وأشواق المستقبل، حتى يدخل في أوردتنا، وقد ندخل نحن فيه، أيضًا. والآن، نتذكّر تلك ونقول: ألا إنّ تلك الدفاتر بحبر أزرق وأسود وأخضر أحيانًا، هي أساس نظرتنا للعالم، وهي الديالوغ معه، والمونولوغ الذي كنّا نقوم بإنشائه، مُحاطين بكرَم طبيعة مُشرقة وناعمة. وعليه، هل يمكننا القول إنه عملٌ مستمرّ منذ سنوات عديدة، هذا الشعر، فمرّة نُصيب ومرّات نخيب، كما هو شأن جميع الشعراء.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا