منذ مغادرته بلاده تشيكوسلوفاكيا عام 1975، مُختارَاً العاصمة الفرنسية باريس مكان إقامة له، و"تُهمة" التخلّي عن الوطن الأمّ تُلاحق الروائي التشيكي ميلان كونديرا (1929)؛ تُهمةٌ لطالما نفاها صاحب "الخلود" (1988)، مُعتبراً أنّها تندرج في سياقٍ يرتبطُ بماضيه المُعارِض لنظام الحُكم الشيوعي، الذي طالما عبّرت رواياتُه عن انتقاده له، وللطريقة التي أطّر فيها مفهوم الفنّ.
ورغم قلّة التصريحات التي يخرج بها كونديرا إلى الإعلام، تبقى الأفكار والمواقف التي يُطلقها على لسان شخصياته كفيلةً بإثارة جدلٍ نقديٍّ دائم. لكنّ هذا الجدل بقي لمدّة طويلة بعيداً عن لغته الأمّ وقرّائه فيها، على عكس حضوره الكبير في لغات أُخرى، وعلى رأسها الفرنسية.
ضمن هذا الإطار، افتُتحت في الأوّل من نيسان/ أبريل الجاري؛ ولمناسبة بلوغ الروائي عامَه الرابعَ والتسعين؛ في مسقط رأسه مدينة برنو التشيكية، مكتبةٌ تضمّ ثلاثة آلاف عنوان من مكتبته الخاصّة، بعد أن كانت محفوظة في شقّته بباريس. وحسب القائمين عليه، فإنّ المشروع سيوفّر فضاءً للطلّاب والباحثين على حدٍّ سواء، وكذلك للراغبين في تأمّل أدب كونديرا.
تضمّ ثلاثة آلاف عنوان من كتب ومقتنيات صاحب "الحياة في مكان آخر"
من جهتها صرّحت فيرا كونديروفا؛ زوجة الروائي، لوسائل إعلام دُولية، بأنّ الخطوة تحمل الكثير من الدلالات الرمزية، حيثُ لا تبعد المكتبة الجديدة عن المنزل الذي وُلد فيه كونديرا، سوى عشرِ دقائق، مُضيفةً أنّه لو رحلَ، ذات يوم، فإنّ هذا الصرح سيكون أثراً حيّاً يُذكّر بمُنجَزه الأدبي في هذا المكان.
كان مُخطَّطاً لهذا المشروع أن يرى النور في وقت أبكر، ولكنّ الإغلاقات التي نجمَت عن جائحة كورونا في الأعوام السابقة، أخّرت نقل المحتويات لفترة من الزمن. ولفتَ مُدير المكتبة إلى أنّه، في وقت لاحق، ستُضاف قاعات جديدة إلى المبنى الأساسي، من شأنها أن تستوعب كلّ المُقتنيات، بما فيها نسخ من الكتب والجوائز والتذكارات التي تلقّاها كونديرا خلال مسيرته الروائية الطويلة.
وتضمّ المكتبة، إلى جانب المطبوعات الخاصّة، رُسوماتٍ تجسّد الروائي، ومقالاتٍ صحافية ونقدية تناولت ما كتبه، ما يمنح الزائر تجربة للاطلاع على أصواتٍ مختلفة، إضافة إلى النسخة الأصلية لمقال من القرن السادس عشر يحمل توقيع الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين. كما ستستضيف المكتبة محاضرات وحلقات نقاشية تضمّ مختصّين ونقّاداً، بهدف أن تصبح فضاءً ثقافياً عامّاً.
تُعيد المُبادرة التذكيرَ بمسألة الاعتراف الأدبي بالكثير من كتّاب المنافي داخل أوطانهم، حيث تمثّل سيرة حياة صاحب "الحياة في مكان آخر" (1973)، نموذجاً عن هذه الظاهرة التي برزت في النصف الثاني من القرن العشرين، وشملت الكثير من الروائيّين والفنّانين الذين كان لهم مواقف من الأنظمة الشمولية، واضطرّوا لمغادرة البلاد، ثم ترتّبت على ذلك علاقة مُركّبة مع أجيال جديدة في الوطن الأمّ، لم يُتَح لها الاطّلاع على إنتاجهم.