ملتقيات فرنسا الأكاديمية 2024... تغييب لفلسطين ومُصادرات تجترّ نفسها

08 يناير 2025
الشرطة الفرنسية تقمع طلّاباً في باريس خلال احتجاج ضد الإبادة، 7 مايو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت فرنسا في عام 2024 تنظيم ندوات حول الحضارة العربية الإسلامية، تناولت مواضيع مثل المسرح العربي والحرية والنّسوية، لكنها تعرضت لانتقادات بسبب رؤى ثابتة وثابتة عن الثقافة العربية.
- ركزت بعض المؤتمرات على ظواهر سلبية مثل العنف والكبت، مما أدى إلى تعميمات خاطئة عن المجتمعات العربية، مستندة إلى مقولات استشراقية تفتقر للتحليل العميق.
- تجنبت المؤتمرات مناقشة قضايا جوهرية مثل القضية الفلسطينية، مما يعكس تحديات تقديم صورة متوازنة عن الثقافة العربية بعيداً عن الأفكار النمطية.

عُقدت في فرنسا، طيلة سنة 2024 المنصرمة، عشرات الندوات المحليّة والعالميّة التي تتناول قضايا الحضارة العربيّة الإسلاميّة وآدابها ولغتها. تنعقد هذه الملتقيات في شكل ندوة عالميّة أو يوم دراسي، تُلقى خلالها محاضرات وأبحاث جامعيّة تدور حول محور محدّد، وقد تُجمع أجود المداخلات في كتاب مطبوع. وللأكاديميات الفرنسيّة تقليد عريق في تنظيم هذه الملتقيات الدوريّة إذ تُخصِّص المخابر العلميّة قسطاً من ميزانياتها لعقد لقاءات وموائد مستديرة ولا سيما في أقسام اللغة العربيّة بهذه الجامعات، وهي عديدة تربو على العشرين.

ومن أبرز الملتقيات التي عُقدت خلال السنة الجامعيّة المنقضية نذكر: "ظهور فنون المسرح العربي: تاريخها وتطورها" في "جامعة نانسي"، و"الحرّية والنّسوية في الفكر العربي: التطورات والعراقيل" في "جامعة ننتير"، و"الحبّ في العالم العربي" في "معهد العالم العربي"، و"اليوم الثقافي للعالم العربي" في "معهد اللغات الشرقية" بباريس، و"اللغة العربية بين المقدّس والمدنّس" في "معهد الدراسات الإسلامية" بباريس، وغيرها كثير لا مجال لحصره. وتُعدّ هذه المؤتمرات استمراراً لتقليد الاستشراق ونسخته المُخفّفة "الاستعراب" الذي يتبنّى مواقف صارمة من التراث العربي الإسلامي ومن المظاهر الاجتماعيّة في بلداننا. وهو ما يقتضي منا إجراء جَرْد نقدي عام لمصادرات هذه الندوات وغاياتها الصريحة والضمنية.

غالباً ما ترتكز هذه المؤتمرات على رؤية جوهرانيّة للحضارة العربيّة الإسلامية تُصوّرها ككلٍّ لا-تاريخيّ وكتلة واحدة بلا تضاريس، في حين أن الثقافة العربيّة لا تُوجد ككيان واحد، بل تتجلّى من خلال مجتمعات متنوّعة ومتغيّرة تعيش ضمن دول، وتختلف خصوصياتها حسب المراحل التاريخيّة التي تمرّ بها. وضمنها أفراد يحمل كلّ واحد منهم هويّة وذاكرة ومساراً شخصيّاً متميزاً. ولذلك، لا مجال لتنميط هذه الكثرة أو لربطها بمرجعيّة قاهرة أو حصرها في صور وكليشيهات ثابتة، تصبح بمثابة المفاتيح التحليلية التي تطبّق على كل الظواهر المجتمعيّة المدروسة دون تنسيبٍ.  

تركيز على ظواهر عنيفة تُربط بطبيعة المجتمعات العربية

ومن ذلك أيضاً مصادرةٌ ثانية لم تنجح المقالات الجادّة في زحزحتها أو التخفيف من حدّتها، وهي أن سبب هذه الظواهر السلبيّة هو الإسلام كعقيدة وفلسفة، وما صاحبَه من تحكُّم بُنية ذكورية - بطركيّة (patriarcale) سادت على امتداد التاريخ، مع إهمال التطوّرات الفكريّة والتقنية كافة التي شاعت في دولنا العربيّة بفضل التناغم التامّ بين التقدّم المادّي والمرجعية الدينية، ولا سيما في دول الخليج التي باتت من أغنى مناطق العالم. ومع ذلك، لا يزال يُنظر إليها ككياناتٍ رجعيّة يُعرقل الدين ازدهارها. لم يكفِ الواقع المُشاهد دليلاً على تهافُت هذا التضليل.

ومن هذه المصادرات أيضاً "الكبت" الذي يُظنّ أنه السمة الرئيسة لمجتمعاتنا. إذ تتّسم هذه الأعمال بالتركيز المُفرط المُضحك على الجنس، حتى كأنّ هؤلاء الباحثين لا يرون في بلداننا إلا اغتصاباً وكبتاً ولا يُبصرون سوى انحرافات لا تشفى، سواء أكان ذلك في مجال النقد الأدبي أم البحث التاريخي أم التوصيف الاجتماعي، حيث يتم التركيز على هذا البُعد من خلال عرض حالات محدّدة يتم تعميمها على الثقافة العربيّة، وكأنّ المفهوم محلّ إجماع أو أداة تحليليّة صارمة، ثم مع ربطه آلياً بالإسلام، في استمرار ماكر لمقولات الاستشراق الجوهرانيّة.

ومن نتائج هذه المقاربة، التركيز على ظواهر العنف والانحراف والاغتصاب التي تُقرن آليّاً بطبيعة المجتمعات العربية، دون تحديد ماهياتها ثم بالثقافة البطركية الطاغية فيها، هكذا من دون أدنى تنسيب أو وضع في سياق تاريخي أو سياسي، كما لو كان هذا الفساد نتيجة حتمية للإسلام وترجمة ملموسة لمبادئه التي تُعلى، في هذه التحاليل، إلى مصاف العلل الأولى والسمات المركزية للشخصية العربية الإسلامية فلا تنفصل عنها.

ممارسات تمنع قيام دراسات تُشكّك بالسردية الإسرائيلية

وأخطر ما في هذه التعميمات أن البحث الأكاديمي، وعلى لسان ممثّليه من أساتذة وجامعيين، بات يردّد نفس الأطروحات الدّعائية التي يكرّرها قادة الأحزاب اليمينية المتطرّفة وساستُها في السنوات الماضية. وغدت الحدود رقيقة للغاية بين التنظير العلمي والخطاب السياسي الشعبوي. ولا يُمكن للتحليل الأكاديمي، ولو استتر برداء الالتزام بقضايا السياسة، أن يؤدّي دور تلك الأحزاب ولا أن يسقط في خطاباتها المضلّلة، كالنظر مثلاً إلى المجتمعات العربية كما لو كانت كتلة واحدة متجانسة.

ثمّة بُعدٌ آخر يتمثّل في التركيز على التعابير الراهنة مع عزلها عن ذاكرتها الماضية وجملة العوامل التاريخية العميقة التي أنتجتها، وكأن الظواهر المدروسة في هذه المؤتمرات وليدة اللحظة، قد برزت نتيجة طفرةٍ مفاجئة وفي قطيعة كاملة مع عمقها التاريخي. وهو ما يمنع فهم مراجعها ويقصر التحليل على تجلّيها الراهن المقطوع عن ذاكراتها. وتُعزى هذه الظواهر آليّاً إلى المحدّد الديني، الذي يُرفع كشمّاعة بل كمفتاحٍ أوحد لفهم كل ما يجري في العالم العربي من أحداث وما يُصاغ فيه من مفاهيم، في حين ترتبط هذه الأخيرة بوقائع اقتصادية واجتماعية وسياسية، تُتجاهل عمداً لصالح تضخيم الدين مُشكِّلاً أوحدَ لكل شيءٍ. 

وعندما يُشارك الباحثون العرب في مثل هذه الندوات، ترى بعضهم يُردّد المقولات السائدة الخاطئة في الخطاب الاستعرابي، وينقاد بدافع السهولة والكسل إلى ترديد ما تودّ الآذان الغربيّة سماعه، واستعادة الكليشيهات التي تجاوزها الزمن، والتي ربما كانت صحيحة في نهاية القرن التاسع عشر، ومع ذلك لا تزال تتعاود أصداؤها، بزعم أن العقليّة العربيّة هي ذاتها وأن البنية البطركيّة والاستبداد السياسيّ والتخلّف الذهنيّ لا تزال سمات قائمة. 

ولئن تفنّنت هذه المؤتمرات في درس سائر مظاهر الثقافة العربيّة حتى المهمّش منها، فإنها تغافلت تماماً، وبشكل مقصود ومنهجي، عن استعراض القضيّة الفلسطينيّة وحرب الإبادة تحت تعلّات واهية، أبرزها الخشية من حصول أعمال شغب أثناء الأعمال الأكاديمية بسبب "حساسيّة الموضوع". وفي الحقيقة، تهدف هذه الذريعة إلى منع قيام دراسات جادّة تُشكّك في السرديّة الإسرائيليّة التي يتبنّاها الكثير من الهيئات العلميّة بفرنسا. 

نظّمتُ الكثير من هذه المنتديات وتعلّمتُ منها الكثير. لكن تبقى في القلب غصّة، لأن بعض المقولات التي عفا عليها الزمن لا تزال تتحكّم في إنتاج المعرفة الغربيّة عن حضاراتنا وتاريخنا، ولا تزال بعض الأفكار النمطيّة هي ذاتها تتردّد أصداؤها "من خلف حجاب". تستمرّ نظرات الازدراء تنبعث خلسة بين ثنايا الخطاب الوصفي. وأكثر ما يؤلم أنّ الدراسات الجادّة والمعمّقة التي تتناول ظاهرة هامشيّة لها أسبابها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المعروفة للجميع، تُلصق آليّاً بجوهر سلبي مُفترض للثقافة العربيّة. وفي المقابل، تغيب القضايا الجوهريّة مثل الاستعمار والتغريب وطمس الهويّة بفعل القوى الناعمة والقاهرة. وفلسطين تَغيب وتُغَيَّب، وكأنها لا تمثّل جزءاً من هذه الثقافة العربيّة التي يتباكون على أدنى مظهر سلبي فيها. فقد انقضت سنة 2024، سنةُ الإبادة والتقتيل وكأنّها ليست بموضوع يستحقّ أن تُعقد حوله الندوات أو يستنفر لأجله الباحثون. صمتُ الأكاديميا مَقيت، كأنه استمرار لماضيها الاستشراقي. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون