في ذلك الشتاءِ الطويل الذي سبَق نهايةَ الحربِ الباردة،
كان جدّي رماديّ العينين يجلس القرفصاء على حافّة السّماء
وينظُرُ بتركيزٍ شديد إلى أصابعِهِ المغروسِةِ في الفَجر كمناجلَ تحصُد أوّل الضوء
كان يقلّب قلبَه كجمرةٍ أبديّةٍ في كانون الكون، وفي رماد الإمبراطوريات البائدة وتلك التي ستبيد
ويُحصي أيامَه المكدّسة كأكياس القَمح في بيدرٍ هجرَه الصّيف: انظرْ كيف ضَمَرت ولم ينخرْها السّوس.
كان حُرّاً ككابوسٍ تآخى مع رعبِه فائتمنَه على ذَهبِه ولَهبِه
في حين كان جسمُه لا يزال صاخباً كلونغا تركية في آخر الموشّح
كان قد مضى أكثر من مئة عام على افتتان فرويد بالألم الذي تنتِجُه الذّكريات
وأكثر من ثلاثمئة عام على انطفاء اسبينوزا متأثرّاً من غبار العدسات الطبيّة، ومنبوذاً لأنّه كان يرى الله في كلّ مكان.
في الربيع التالي كنتُ أخوضُ مع رجال العائلة في متاهة رخاميّة
وأحفر في الأرض ظلّاً حجرياً لنارِه العائدة إلى موقدِها
حفرتُ بمعولٍ كمن يصنع سريراً لجذورٍ تعبت من المشي في الهواء وتريد أن تنام
أو كمن يكيد مكيدةً من الصقيع لجنديّ الغياب الذاهب دائماً إلى الحرب
كان التراب رطباً
وكان حزني صلباً كماءٍ يجفّف أعماقَه من لوعةِ النّهر ويفرّغها تماماً من الغرق
حفرتُ بأصابعَ متجمّدةٍ
وكان ذلك قبل أن تتطوّر لوحة مفاتيح الوحدة على النحو الذي تعرفه أصابعنا اليوم
وقبل أن يُدقّ مسمارٌ واحد في نعش السّلام الحارق والشرق الأوسط الجديد.
* شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين