خلال القرن الخامس قبل الميلاد، بدا العالم منقسماً بين ثقافتين متضادّتين تواجهتا في عددٍ من المعارك والحروب انتهت بانتصار مدوٍّ لليونان على الفرس، الذين لم يتمكّنوا، رغم ضخامة جيشهم وامتداد إمبراطوريتهم، من الاحتفاظ بتفوقهم بعد دخولهم مرحلة سادها الانحطاط والفساد.
هذا التناقض بين الإمبراطوريتين شمل نواحي عدّة، بدءاً من نظام الحكم وليس انتهاء بالعمارة والفنون والأزياء والطبخ، وهو ما يُضيء عليه معرض "الرفاهية والقوّة: من بلاد فارس إلى اليونان"، الذي افتُتح في "المتحف البريطاني" بلندن في الرابع من الشهر الجاري، ويتواصل حتى الثالث عشر من آب/ أغسطس المقبل.
رسمَتْ كلّ حضارة صورة ساخرة ومعادية عن الأُخرى
تتكثّف صورة الصراع في لحظة نهايته، حين استولى جنود أثينا على مركز القيادة للملك الفارسي بحلول عام 449 ق. م. فهالهم مستوى الترف والفخامة اللذين يعيشهما ملوك الفرس، كما يروي الكتّاب الإغريق عندما عقدوا المقارنات بين الفرس وبين نمط الحياة المتقشّف لدى ملوك اليونان آنذاك.
يستكشف المعرض الرفاهية بوصفها أداة سياسية، حيث استخدم البلاط الملكي الإخميني في بلاد فارس الأشياء الثمينة كعلامات على نفوذ السلطة، تركت أثرها الكبير في جغرافية شاسعة امتدّت من مصر إلى الهند، بدءاً من منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حين تمكّن الفرس من هزيمة منافسيهم المصريين ثم انتقلوا إلى غزو اليونانيين.
ويدرس المنظّمون كيف تمّ استقبال الكماليات من مجوهرات وتُحف، آتية من الشرق، في أثينا التي كانت منقسمة إلى عدد من الممالك والمدن قبل توحّدها في مواجهة عدوها اللدود، لتتكيّف مع طرز وعادات وتقاليد غير معروفة لديها وجعلها مقبولة اجتماعياً وسياسياً، وبعد ذلك تندمج عناصر شرقية وغربية خلال الحقبة الهلنستية.
انتقل اليونانيون من اعتقادهم الراسخ بأن الرفاهية كانت مفسِدة قادت إلى تراجع قوّة الفرس، إلى تبنيهم لها بالمطلق بعد انبهارهم بثقافة عدوّهم واستلابهم لها، كما تبيّن ذلك أقسام المعرض الثلاثة، حيث يتعرّف الزوّار في القسم الأول على آثار تعكس جوهر الحضارة الفارسية ومعتقداتها، ومنها نقش للملك داريوس الأول (550 – 486 ق. م) وهو يتعبّد للإله المصري أنوبيس.
في القسم الثاني، تبرز طبيعة الصراع بين أثينا وفارس والانتقادات التي تبادلها الطرفان ووصلت إلى حدود السخرية، حيث بدا الملوك الفرس في النقوش اليونانية متشبهين بالنساء يستخدمون الكحل ويسيرون تحت المظلّات، لكن هذه الصورة كانت في الوقت نفسه تعبيراً عن الحسد والانبهار، وتكرّست بعد نصر اليونانيين.
ويحتوي القسم الثالث أعمالاً تذكّر بكيف اختلطت الثقافتان بعد غزو الإسكندر الأكبر لعاصمة الفرس؛ برسيبوليس، وكيف صنع اليونانيون بعد ذلك أطباق المائدة من الذهب والفضة بدلاً من الطين، وزيّنوها بثيران وصور بشرية وتيجان، وقاموا لاحقاً بإهدائها إلى الحكّام المحلّيين بقصد شراء ولاءاتهم، تماماً كما كان يفعل الفرس.
يضمّ المعرض آثاراً من مناطق مختلفة، منها أفغانستان وإيران وجنوب شرق أوروبا، دون أن يشير المنظّمون ــ كالعادة ــ إلى طريقة وصولها إلى "المتحف البريطاني" لتغدو جزءاً من مقتنياته الدائمة. وهي معروضات توضّح التطوّر الكبير الذي عاشه الفرس وانسحب على حياتهم، حيث يشاهد الزائر، على سبيل المثال، ملابس ثمينة فاخرة كانت تُصبَغ بألوان يتمّ استخراجها من حلزون البحر. وعبر كلّ هذا، يفكّك المعرض تلك الصورة النمطية عن مثاليةٍ اتسمت بها الحضارة اليونانية، مقابل استغراق نظيرتها في فارس بالملذّات.