اعتزل يسوع الناصري مدّة أربعين يوماً في الصّحراء فيما راح الشّيطان يجرّبه ويغريه. مع عودته حمل يسوع رسالة غيّرت العالم كله. صامتاً، جلس بوذا تحت شجرة إلى أن تلقّى تعاليمه التي أنار من خلالها القارة الآسيويّة. عبر موسى الصحراء، صعد الجبل، ثم نزله، مؤسِّساً بذلك لمجتمع جديد. كل هذه الشخصيات والروايات القديمة التي غيرت عالمنا بشكل أو بآخر تتقاسم في ما بينها الجهد والتضحية والتنازل. فهل يمكن أن يتغير العالم بطريقة أخرى؟
لكي تكون بطلاً، لا بدَّ من أن تضحي بجزء مهمٍ من نفسك ومن حياتك، ليس هذا فحسب، بل عليك أيضاً أن تخلق شيئاً جديداً وأصيلاً وله ديمومة. هذا تماماً ما فعله أوديب، الذي صار أسطورةً في اللحظة نفسها التي قرر فيها أن ينقذ شعبه بعد أن تحقق مصيره التراجيدي، متخذاً بذلك قراراً جلب له أعظم المصائب وأشنعها.
"سوف تقتل والدك وتتزوج أمك"، مع هذه النبوءة التي يفتتح بها باكو بيزيرا (ألمرية، 1978) عمله المسرحي "أوديب، في اللهب"، على لسان شخصيته الجديدة، يلمو، التي ابتكرها لنسخته من أسطورة الملك أوديب الكلاسيكية؛ والتي قدّمها المخرج المدريدي لويس كوكي على خشبة مسرح مدينة ماردة الأندلسية الأربعاء الماضي، تبدأ حياة أوديب الذي كُتب له أن يعيش في ظل نبوءة ستطارده مدى حياته.
يقترح باكو بيزيرا حزمة تغييرات على الأسطورة الإغريقية
غير أن أوديب يعتقد أنَّ الحياة مجرّد لعبة وأن الإنسان يستطيع أن يهرب من قدره المكتوب. هكذا يحاول أوديب الهرب من مصيره، تجنباً لهذه النبوءة، غير أنَّ باكو بيزيرا سيغيّر في بعض الأحداث خالقاً نسخته الجديدة من الأسطورة الكلاسيكية، فبدلاً من الطاعون الذي يرويه سوفوكليس، أو المجاعة كما جاء في نسخ أخرى حاكت الأسطورة؛ قرّر كاتب العمل وضع بصمته الشخصية على الأحداث، وسيكون الحريق الذي يحاصر مدينة طيبة هو العنصر الجديد في هذه المسرحية، حيث يخبر كريون، القادم من الأوراكل بطريقة الحل، أن الحريق لا يمكن إخماده إلا من قبل الشخص الذي يقتل قاتل ملك طيبة السابق، الملك العجوز لايوس.
ما لا يعرفه أوديب أنّه كان ابناً بالتبني وأنّه في حادثة على مفترق الطرق الثلاثة، قتلَ عن غير قصد وبعد جدال طويل عن أحقية العبور أولاً، الملكَ العجوز لايوس، الذي كان والده، ولكن دون أن يعلم؛ حقيقة سيكشفها له تيريسياس في ما بعد. ها هو الجزء الأول يتحقق من نبوءة يلمو؛ الشخصية التي تطارد أوديب في نومه وأحلامه قائلة له: "يمكنك الهرب من كل مكان، يمكن أن تهرب من مدينتك، من وطنك، ومن الآخرين، لكنك لن تستطيع أبداً الهرب من نفسك". سيكون هذا القدر المحتوم، علاوة عن جو عدم اليقين هو الإطار العام الذي يسود قصة المسرحية وخشبتها.
ها هو أوديب يواجه ازدواجية كونه الحل والمشكلة في الوقت نفسه. ستتعقد الأمور أكثر فأكثر على بطل المسرحية، عندما يكشف، عند طريق خادمٍ، أن جوكاستا، المرأة الأرملة والملكة التي تزوّج منها، هي، في حقيقة الأمر، والدته. هنا سيصرخ أوديب: "أنا الذي كنت السهم، أصبحت الآن الهدف؛ أنا السؤال وأنا جوابه". لقد تحققت نبوءة يلمو، واللهب الآن يحاصر المدينة. لقد اعتقد أوديب المأساوي أنه يستطيع أن يفرّ من مصيره، لكنه دون أن يعرف ذلك كان يغرق فيه، فالهرب من الأقدار لا فائدة منه تماماً مثل الدوران في دائرة مفرغة.
في زمننا، لن نرى أوديب يرضى أن يضحّي من أجل شعبه
لن يقدر بطل المسرحية أن يتحمّل مأساته، فيقتلع عينيه، ويتحوّل، فجأة، إلى يلمو، تلك الشخصية التي لطالما عذبته في أحلامه، وقد ظهر وحيداً على خشبة المسرح، سائراً على طريق معبّدٍ لا نهاية له، مرتدياً خوذته المعدنية وثياباً تأكلها النيران.
طوى الزمنُ، اليوم، في عصر الفيزياء الكوانتية وموجات الجاذبية صفحة الإيمان بالمصير والأقدار. فقد يسبّب لنا الاعتقاد، مجرد الاعتقاد، أن الحياة تسير وفقاً لمصير مقدّر الصداعَ، إذ إن هذا يعني أن قراراتنا الواعية ليس لها أي علاقة بالمستقبل. مع ذلك، قد يكون أكثر راحةً وهناءةً لدى البعض انتظار أن يتحقق مصيرهم المكتوب على لوحٍ ذهبي، مهما كان تراجيدياً، بدلاً من محاولة الهرب منه أو تغييره.
ولكن، مهما يكن من أمر، وعلى الرغم من المسافة الزمنية التي تفصلنا عن هذه الشخصية اليونانية، إلا أنها لا تزال تثير حتى يومنا هذا قضايا ومسائل وتأويلات مرتبطة بتعقيدات المجتمع الحالي الذي نعيش فيه، لا سيما فكرة البحث عن الحقيقة والهوية، إضافة إلى فكرة التضحية بالنفس من أجل الصالح العام، تماماً كما فعل أوديب، منقذاً شعبه ومدينته.
اليوم، لن نرى سياسياً واحداً أو قائداً أو حتى بطلاً في عالمنا العربي يضحي بنفسه وملكه من أجل شعبه ومدينته، بل على العكس من ذلك تماماً سنجدهم يضحون بشعوبهم وبلدانهم من أجل الحفاظ على سلطتهم وأموالهم وكراسيهم، والأمثلة على ذلك كثيرة بدءاً من سورية وانتهاءً باليمن.
مما لا شك فيه أن أوديب، بحلته التي صاغها له كلٌّ من لويس لوكي وباكو بيزيرا، يثير تساؤلات تلزمنا جميعاً: من هو البطل في زمننا الحالي الذي يراهن على الحقيقة وهو يعلم أنها ستجلب له المأساة، وأين هو؟ أين هو السياسي الذي يجرؤ على النضال والتضحية بنفسه من أجل خدمة مجتمعه؟ أين هو الإنسان القادر على أن يسأل نفسه، كل يوم، لماذا جئت إلى هذا العالم؟ نعم، هذه أسئلة تثيرها مسرحية "أوديب، في اللهب"، ولا بدّ من الإجابة عليها إذا أردنا تجاوز مجتمعاتنا البائسة التي نعيش فيها اليوم والانتقال إلى عالمٍ أفضل، ولكن من ذاك الذي يجرؤ على أن يكون أوديب، اليوم؟