استمع إلى الملخص
- تجارب السوريين تحت حكم الطاغية تركت أثرًا عميقًا في الكاتب، مما دفعه لاتخاذ موقف ثابت ضد عائلة الأسد، مؤكدًا أن لا خير لفلسطين في طاغية يقهر شعبه.
- مع هروب الطاغية، يشعر الكاتب بمزيج من الألم والأمل، مهنئًا السوريين بانتهاء الكابوس الذي سرق حيوات الملايين.
كنت في سفر ذلك الفجر، وبمجرّد أن قرأتُ الأخبار، بدأتُ أتذكّر ما جرى في سجن "قسم الخليفة" بالقاهرة، صيف العام الثالث من الثمانينيات. كنّا في مردوان الأجانب، وكان معي شابٌّ سوري في الثلاثينيات، هارب من نظام حافظ الأسد، وراح يسألني عن تفاصيل أحوالنا في معتقلات الاحتلال، فلمّا حكيت له عمّا عرفت وخبرت (وهو أمر هيّن جدّاً قياساً بسواي)، صدمني أنّه يتمنّى لو اعتُقل هناك. صُدمت: إيش القصّة؟ وراح يشرح لي تجربته في سجن الطاغية، قبل تدبير رحلة الفرار بلا عودة. قلت له، بعد أن زلزلني: أفهمك، ولكنّ الأمنية لا تجوز بأيّ حال.
كانت تلك هي المرّة الأُولى التي أسمع فيها عن مجريات الواقع السوري. وفي ما بعد، رحت أقرأ من المتاح القليل في ذلك الأوان النائي، عن سورية وأهوالها ومناضليها. ثمّ قرأت، بعد وقت طويل، كتباً من أدب السجون، للشاعر فرج بيرقدار ولـ مصطفى خليفة وسواهما، من شرفاء سورية. كذلك أتاحت لي بغداد سهرةً طويلة في غرفة الشاعر هادي دانيال، فأخبرني عمّا نسمّيه "العجب العجاب". ثمّ سمعت في برشلونة قصصاً من المترجم والقاص السوري كاميران محمود، وكيف أنّه كان تلميذاً، وذات مساء في طريق العودة إلى البيت من المدرسة، مرّ بصورة كبيرة للطاغية، وُضعت على الطريق الخالية، حديثاً، فانتابه الرعب، وولّى هارباً من الصورة.
قصصٌ وحكايات لها بدء بلا آخِر: روايات السيرة الذاتية، وشهادات الشخص الأوّل، والصحافة الاستقصائية حول البطش الكليّ وراء قضبان المسالخ البشرية... كلّ هذا جعلني، منذ لقاء "قسم الخليفة"، آخذ موقفاً ثابتاً من عائلة الأسد، فلا خير لفلسطين في طاغية يقهر شعبه، ويجعل وريثُه البلدَ كومةً من خراب.
ظلّ الشجن السوري، بكلّ ذبذباته منذ ذلك الوقت، وبكلّ ما أيقظه عندي منذ ذلك الوقت، يتردّد في داخلي، حياةً مليئة بالألم، وقليلاً من الأمل.
لقد هرب الطاغية، ومع هروبه المخزي، انهالت عليّ الأفكار والصور والأحاسيس، مثل السيل. اليوم وقد انتهى الكابوس، بعد أن سرق حيوات ملايين النازحين والشهداء والناجين، وطال أمدُه كأنّه الأبد، أبارك مع رعشة في القلب، لكلّ السوريّين أينما كانوا، في الوطن والشتات.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا