"ميتا- حروب القرن الواحد والعشرين".. ماكياج الهاوية

09 أكتوبر 2024
من الندوة (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أشار جون كين إلى التحول في طبيعة الحروب الحديثة، حيث أصبحت تقتل أعداداً كبيرة من المدنيين وتُدار بتقنيات رقمية، مما يعكس ثقافة اللامبالاة والانحطاط الأخلاقي.
- تناول كين دور الإعلام والتكنولوجيا في تشكيل الرأي العام، مشيراً إلى استخدام الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة في الحروب، مما يساهم في إخفاء الحقائق وترويج فكرة "الحرب العادلة".
- اختتم كين بالتأكيد على أهمية "صحافة التمرد" في كشف وحشية الحروب، داعياً إلى استخدام الديمقراطية لإضفاء الطابع الديمقراطي على الحروب.

لو جاء أجداد البشرية الذين اخترعوا الحرب، لما تمكنوا من التعرف إلى الهاوية التي تنجرّ إليها الكرة الأرضية. فهم طوال التاريخ عرفوا القتال بين طرفين مسلّحين، لكن الحروب الحالية تقتل أعداداً هائلة من المدنيين ربما لا نراهم، لكن الأخطر أن رؤيتهم لا تعني لنا الكثير.

هذا بعض مما جاء عليه أستاذ العلوم السياسية في "جامعة سيدني"، جون كين، خلال المحاضرة الأولى التي افتتحت أول من أمس الاثنين العام الأكاديمي 2024- 2025، في "معهد الدوحة للدراسات العليا" وصادفت مرور عام على السابع من أكتوبر، وعام على إبادة لم يعد أحد يتردّد في وصفها بـ"غير المسبوقة".

وفي تقديم عبد الوهاب الأفندي رئيس "معهد الدوحة للدراسات العليا" المحاضر الضيف صاحب المؤلفات ذائعة الصيت في المجتمع المدني والديمقراطية، أشار إلى تدهور مستوى الأخلاق في العالم ولا سيما في العالم العربي، إذ إن الشعوب العربية لديها تعاطف مع الضحية لكن التعبير عنه ضعيف، "لأسباب نعرفها وأُخرى علينا التفكير فيها".

تحويل الحرب إلى مشهد مسرحي يتولّى إخراجه العسكريون

والأسباب الأُخرى تلتقي فوراً مع ما ستذهب إليه محاضرة كين، حول الاشتقاق الذي يروّجه باسم "ميتا- حروب". فهذه البادئة اللفظية اليونانية "ميتا" والتي تعني "ما وراء" هي ما يجعل الحروب الراهنة لا تشبه سواها، ليس بسبب قدرتها التدميرية فحسب، بل بارتباطها الحثيث بثقافة اللّامبالاة التي يُمكن أن تشتبك أو تؤدّي إلى انحطاط أخلاقي.

وقد سبق أن أطلق الباحث الصيني الشاب شي تشان لأول مرة "حرب الميتافيرس"، قبل أن يطور جون كين مصطلح "ميتا حروب" وتفرغ لبحثه في طبقات متعددة على صعد سياسية وثقافية وإعلامية.


اللامبالون

وفي رأي المحاضر أن من أمراض العالم الديمقراطي حول الأطلسي بمنظور أنثروبولوجي الشعور باللامبالاة، وهذا لا يشبه الإنكار الذي له ديناميكية مختلفة. فاللامبالون يعرفون ما يدور حولهم، لكنهم لا يبالون.

وفي الأدبيات الدعائية تقع هيمنة لافتة لمقولات تطبيعية مع هذه الحروب الشاملة، ومن ذلك أن "أسرع طريقة لإنهاء الحرب أن نخسرها" التي قالها الروائي البريطاني جورج أورويل (1903 - 1950)، ولا بد لملياردير الفضاء ووسائل التواصل إيلون ماسك أن يدلي بدلوه فيقول "كل الكائنات تتقاتل ونحن البشر لسنا مختلفين".

يقع ذلك بحسب كين، لأن الحرب تدور بتأثيرات لغة نوع غريب من الحروب، فهناك نحت جديد لم نسمع به مثل "الضربات الجراحية"، و"الأسلحة الذكية"، و"الأضرار الجانبية"، و"العمليات الخاصة"، والهدف من ذلك هو تحويل الحرب إلى مشهد مسرحي يتولى إخراجه العسكريون.

وفي أحيان أخرى قال إنها حروب تبدو كألعاب فيديو، إذ ما نراه رأي العين من التداعيات الأخطر هو تجميل الحرب المدارة بأزرار وبرمجيات، وبات صفة من صفة ميتا.


الأخبار العاجلة

فما الذي يحدث حين ترد الأخبار عن استخدام قنبلة وزن ألفي رطل على غزّة؟ الجواب تقريباً: لا شيء. لأن عمليات الماكياج المتواصلة تدفع الفرد إلى الإذعان لسيل من الأخبار العاجلة، وسط بحر من أخبار أُخرى ومواضيع سطحية تبتغي تصوير الحرب بكل سوئها من الناحية السيميائية التي عالجها أمبرتو إيكو ذات بعد جمالي، لأنها تتحول إلى صورة معزولة، كما يواصل.

اعتمادٌ على التقنيات "الذكية" لا هيكليات الجيوش التقليدية

الجمال الذي ليس له أي علاقة بإرث بشري ربطه بثالوث "الحقّ والخير والجمال" هو إذاً عملية مبرمجة لجعل سياسات الدول وشركات السلاح ووسائل الإعلام ومواقع التواصل، تمرر الحرب المرقمنة خبراً عاجلاً، وتطبّع وجودها في المجتمعات. يرى كين هذه المجتمعات أنها مشبعة بوسائل الإعلام، ولكن عندما يتعلّق الأمر بالرقابة، فإن بعض الأمور لم تتغير. منذ ظهور تقارير الحرب في القرن التاسع عشر، تبذل الدول التي تلاحق الحرب قصارى جهدها لضمان أن تكون الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب، وأن تكون التفاصيل الدقيقة هي الضحية الثانية.

ولدى دراسته في تورونتو في كندا كان بين ما تعلّمه أن كارل ماركس ليس محقاً حين قال إن قوى الإنتاج هي التي تحرك المجتمع، بل الحقيقة أن هناك وسائل التواصل التي تلعب هيكلياتها وبُناها دوراً عميقاً يحدّد آفاقنا ويصوغ الحرب ويؤولها ويخوضها. ونحتاج إلى مقاربة تاريخية لفهم هذا النزوع نحو التطبيع مع الحرب، فالتاريخ يكتسي أهميته في سياقات الحرب، كما أضاف.


رسائل حربية

وكان لا بد للمحاضر أن يرجع إلى مراحل سابقة بدأها بمرحلة التواصل الشفوي، لما كانت الرسائل والأخبار تنقل من جبهات الحرب على الحمير والبغال والقوارب بسرعة بطيئة. فعلى سبيل المثال، مع نهاية معركة واترلو عام 1815، استغرق وصول الأخبار عن الهزيمة التاريخية التي لحقت بجيش بونابرت على بعد 200 كيلومتر من لندن، ثلاثة أيام. أمّا الحرب العالمية الثانية فكانت حرب الراديو، وحرب فيتنام كانت حرب التلفزيون، واستشهد كين بما وصفه مارشال ماكلوهان (1911-1980) بأنها "أول حرب تلفزيونية". وكانت بالفعل الحرب التي جعلت الرأي العام شريكاً لأول مرة بالصوت والصورة، ما جعلها بهذا التحول التلفزي أقرب، كأنها سيجارة ندخنها، على حد وصفه.

ولنلاحظ هذا التعبير الذي يذكرنا به ويعود على لسان ماكلوهان صاحب المقولة الشهيرة "العالم قرية صغيرة"، إن "العمليات الرئيسية للحرب تجري الآن في المنزل الأميركي نفسه". كان الصحافيون يسجلون في فيتنام المصورة بواسطة طائرات نفاثة أثناء الليل لتزويد المنافذ التلفزيونية بالأخبار لبثها في الصباح التالي في منازلهم.

إلا أن ماكلوهان لم يُكتب له العمر ليرى ما رآه جون كين، مع أول بثّ حيّ للحرب، عام 1991، في حرب الخليج على شبكة "سي أن أن"، ثم "إعادة الأمل" في الصومال عام 1992. فقد كانت تغطية "سي أن أن" المتواصلة لحرب الخليج الأولى خطوة أبعد، ولحظة فاصلة في التاريخ المعاصر للحرب والإعلام، إذ أشارت إلى نهاية الفجوات بين الزمان والمكان.

بروباغندا رأسمالية جديدة تكتسح وسائل التواصل الاجتماعي

أما القرن الواحد والعشرون، فبوصفه عصر رقمنة كان عليه أن ينقل استثماره الرأسمالي في الحروب إلى بروباغندا من نوع آخر يمكن أن نقترح على كين "ميتا" جديدة "ميتا بروباغندا". فهذا العصر ترك أثراً على إدارة الحرب ودفع الجمهور إلى الانغماس في الهواتف والبودكاسات والرسائل النصية السحابية، مع دخول حروب الميتا القرن الواحد والعشرين.

من جانب هناك التقنيات القتالية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهي تدير 800 قاعدة أميركية في ثمانين بلداً، والجيش الصيني ينشر روبوتات مسلّحة على الحدود مع الهند، والمسيّرات التي يجري التحكّم فيها على بعد مئات الكيلومترات، تحقق أهدافها، والمروحيات تقتل عن بعد 11 كيلومتراً من دون أن يرى الطيّار هدفه.


"حرب عادلة"

ومع ذلك تقع الحروب كأنها غير موجودة في العالم، بسبب ما قال إنه تحقيق الحروب أكبر كمية من القتل، مع كل لحظة تدفع إلى ترويج القناعة بأنها حرب عادلة، وتنكر أن الأمور تسير على نحو خاطئ، وتخفي الأخبار السيئة.

جون كين - القسم الثقافي
جون كين

ويواكب هذا الهدف التقليل من شأن الخصم، وبهذا لاحظ كين سعي الحكومات والمنصات الإعلامية التي تمولها، وشركات السلاح إلى جعل غزّة لا تستحق أكثر من 29 ثانية بعد الحرب عليها بأسبوع في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في وقت نرى صور المُسيّرات والدبّابات التي تخترق الحقول، والدبلوماسيين الذين يتحدّثون عن هجمات بربرية لم نتأكد منها.

بينما يسجل كين هنا أن الإنفاق العسكري العالمي زاد بنسبة 7 %، والرئيس الأميركي بحسب وصفه ضائع في ضباب عدم الإدراك، ويردد أن أميركا ليست في حالة حرب، ومطلوب في المقابل تصديق أن أميركا لا تموّل حروباً عديدة، وأن القتل خيال درامي ولا وجود لبيئة مدمّرة لمن يُمكن أن يظلّوا على قيد الحياة.

واستعاد المحاضر تحذير جورج أورويل من الساسة الذين "يتلاعبون بالكلام وينشرون الرأي الصحيح كما يطلق المدفع الرشّاش الرصاص"، وهذا بالضبط ما يزدهر أكثر حين يحدث في ميتا- حروب، أو الحروب الشاملة، التي تعتمد على التقنيات الرقمية لا هيكليات الجيوش المعروفة.


صحافة متمردة

وبنبرة أمل وهو يطرح آخر فصل من محاضرته قال إن مرحلة الحروب الشاملة تشهد ولادة "صحافة التمرّد" التي تكشف وحشيّتها وآليات التغطية عليها. وبيَّن في هذه النقطة أن الديمقراطية يمكن أن تستخدم لإضفاء الطابع الديمقراطي على الحرب، لا أن تذعن لتهديد كالذي أصدره جورج دبليو بوش حين قال إنه سيعتبر منتقدي الحرب أصدقاء الإرهابيين.

وإضافة إلى ذلك أن كين يرى في صحافة التمرّد تعزيزاً لتداول الروايات غير التقليدية والإدانات العامة لقسوة الحرب، ويمكنها أن تذكّر الجماهير مرّة أُخرى بأن المدنيّين، وليس الجيوش أو الدول، هُم الخاسرون الحقيقيون في المعارك اليوم. وأخيراً فإن صحافة التمرد، وفقاً لكين، وهي ترفع مستوى الأمل لتفكيك التبريرات الاعتيادية للحرب وتطبيعها، لا توقف هذه الحرب، إنما تعطّل إعاقة الصمت وتسلط الضوء على الوقائع الشنيعة وتقول غير المحكي.
 

المساهمون