مع كثرة المنشورات التي تتناول مجمل أعماله، وتفاصيل مسيرته الفكرية، وحتى تفاصيل حياته، يكاد يبدو اسم ميشيل فوكو، للوهلة الأولى، مكشوفاً لقرّائه والمهتمّين به، الذين يمكنهم الاطّلاع على كلّ شاردةٍ وواردة في تجربته، وعلى الدوافع والأسباب والتَّبِعات المتعلّقة بكلّ نصّ كتبه، من اشتغالاته على الطبّ العيادي في بداياته وحتى أعماله المتأخّرة حول تاريخ الجنسانية.
على أنّ محطّات وجوانب من تجربة صاحب "الكلمات والأشياء" لا تزال حتى اليوم شبه مجهولة لدى الجمهور الواسع، بل حتى لدى جزء من القرّاء المهتمّين بأعماله، وقد يأتي في مقدّمة هذه الجوانب علاقة الفيلسوف الفرنسي بالظاهراتية، أو الفينومينولوجيا، وهي التيار الفلسفي الذي كان الأكثر حضوراً في سنوات نشاطه، والذي لا يزال حتى اليوم التيار الأبرز في الفلسفة القارية الأوروبية.
وفي الواقع، سبق لفوكو أن كتب مسوّدةً عنونَها "الفينومينولوجيا وعِلم النفس" (1953 ـ 1954)، لكن لم يسبق لها أن رأت النور إلا قبل أيام، حيث صدرت في طبعة مشتركة بين منشورات "غاليمار" و"سوي" و"المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية في باريس"، ومن شأنها إلقاء الضوء على علاقة الفيلسوف بالظاهراتية، التي غالباً ما اختُصِرَت بالقول إنه لطالما أبدى نظرةً سلبية، أو حذراً، تجاهها وتجاه مؤسّسها، إدموند هوسرل.
يكشف الكتاب عن علاقة مختلفة تماماً بين فوكو والفينومينولوجيا، حيث يأخذ صاحب "ولادة العيادة" اشتغالات هوسّرل على محمل الجدّ، مخصّصاً أكثر من 150 صفحة لتحليل مفهومه للعالم والعالم اليومي، الذي يتناوله انطلاقاً من مواجهته مع إشكاليات علم النفس، وكذلك مع ضرورة توجيه نقد إلى بعض "الأساطير" الفكرية، انطلاقاً من مسعى يقترب من النقد الكانطي.
وإذ يكشف الكتاب عن اطّلاع كبير لفوكو على المدونة الهوسرلية، وعن تمكُّن ملحوظ لباحث شاب لم يتجاوز الثامنة والعشرين بعد من عمره عندما كتب سطور هذه المسوّدة، فإنه يكشف أيضاً عن تأثُّره بمقولات فينومينولوجية حول العالم والإنسان والزمان والمكان والنفس، وهي مقولاتٌ يُشير ناشر الكتاب إلى تأثيرها الكبير فيه، حيث يمكن ملاحظةُ ولادة الصياغة الأولى لعدد من مفاهيمه الأساسية في هذه المسوّدة نفسها، ولا سيّما ربطه بين الذات والتجربة من ناحية، واللغة والحقيقة من ناحية أُخرى.