نثر راؤول زوريتا: شاعرُ تشيلي في مقالاته المختارة

30 اغسطس 2024
عودة إلى اللحظات التي نشعر فيها أنّنا نتغلّب على الموت الذي لا يُقهر
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **اللغة كتعويذة ضد الموت**: يبرز النص أهمية اللغة في مواجهة الموت، حيث يستخدم الشاعر التشيلي راؤول زوريتا الكلمة والقصيدة كوسيلة للتراجع عن هاوية الموت، ويعتبر الشعر وسيلة لاختراق حدود اللغة وإعطاء معنى للوجود.

- **إسهامات زوريتا الأدبية**: في "مقالات مختارة"، يستعرض زوريتا تأثير الشعراء الكبار مثل دانتي ووالت ويتمان، ويشيد بشعراء تشيلي مثل بابلو نيرودا وغابرييلا ميسترال، مؤكداً أن كل عمل إبداعي عظيم هو عمل أخلاقي.

- **حوار مع الموتى والمظلومين**: يخصص زوريتا جزءاً من كتابه للشاعر الفلسطيني نجوان درويش، مشيداً بشعره الذي يعبر عن التضامن ومعاناة الفلسطينيين، مؤكداً أن الشعر هو رد الإنسان الأول على حقيقة الموت المرعبة.

لا شك أنّ اللّغة، على الرغم من أنّنا نعيش سجناء فيها، هي تعويذتنا الوحيدة في وجه الموت المحتّم. وهذا ما يلخّص حالة الإنسان وظرفه. فالموت هو الحدّ الأخير الذي يعطي معنىً للتجربة. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون الهاوية التي نتراجع عنها من خلال الكلمات. وقد تكون الكلمة - القصيدة، في هذا الصدد، الجوابَ الوحيد على هذه الحقيقة الوحيدة المُخيفة التي لا يُمكن قياسها أو فهمها. وإذا كان ثمّة شيءٌ يميّز كتابة الشاعر التشيلي راؤول زوريتا، شعراً أو نثراً، فهو، على الأرجح، وعيه لأهمية اللغة عبر الزمن، ولكن ليس الزمن بمعناه الرياضي الأجوف؛ ثوانٍ ودقائق وساعات، بل الزمن ببعده العمودي؛ الزمن كخسارة، كنقص وكتجربة تأتي دائماً متأخّرة، ولا يمكن فصله عن المكان.

في محاولة جديدة لاستدراك هذا النقص وهذه الخسارة، عبر اللغة، عبر الكلمة، وعبر فعل القراءة الخلّاقة، يأتي كتاب راؤول زوريتا الجديد "مقالات مختارة"، الصادر حديثاً عن دار نشر "راندوم هاوس العالمية"، ليُذكّرنا أنّ الكلمة - اللغة، وُجدت للكشف عن ماهية الأشياء، ولكي تفتح أمامنا عوالم مغلقة: إنّها تؤسّس خلفيةً من المعاني. وهذه المعاني، في نهاية المطاف، هي حدود اللغة. ووحده الشعر الذي يخترق هذه الحدود. ولن تكون التجربة الإنسانية والإبداعية، بالضرورة، موجودةً، ببساطةٍ، لولا اللغة والكلمة. وكنّا سنعيش، بلا شكّ، في صحراء لا يوجد فيها إلّا الشوك والرمل، وسيبدو سقوط المطر فيها كمثل الجريمة. لهذا السبب، يقول لنا زوريتا في كتابه: "وُجدت الكلمة ووجد المبدعون والشعراء، تحديداً كي يعطوا معنى للوجود، ولكي يثبّتوا في العالم أشياء لولاها كنّا سنعيش دون أن نرى، دون أن نتنسّم أو نتذوّق أو نحسّ. وربما لهذا السبب، نعرف اليوم عن الجبال والشواطئ والمنحدرات في تشيلي، نعرف قصّتها، بسبب كلمات زوريتا وأسئلته".

يُعتبر راؤول زوريتا اليوم مثالاً على هذه الكلمة الشعرية التي تخترق الحدود وتكشف لنا الحقائق وتفتح أمامنا الحواس لاستكشاف ما لا يمكن اكتشافه، ولنتنسّم ما لا يمكن تنسمه، وتبصّر اللامرئي. زوريتا حالياً هو أحد أبرز شعراء اللغة الإسبانية، وواحد من هؤلاء الكتّاب الذين تمكّنوا عبر الكلمات من تشكيل تجربتنا الخاصّة، مؤكّداً من خلال قراءاته للشعراء والكتّاب الذين مرّ عليهم خلال مسيرته الإبداعية، والتي جمعها في مقالات كتابه هذا، أنّ "ما نحبّه ليس أكثر من ظلّ، وأنّ الشعر والشعراء هُم الوحيدون القادرون أن يعيدوا بناء مقبرة أولئك الذين اختفوا في نظام الرعب".

يُسقط جحيمَ دانتي ونعيمه على أميركا اللاتينية

ليست مقالات هذه الكتاب إلّا أنشودة وشكلاً من أشكال التذكّر والعودة لأولئك المبدعين، بدءاً من دانتي الذي خصّص له أكثر من مقال، وربما أهمّها تلك التي افتتح بها الكتاب، تحت عنوان "الشعر والعالم الجديد"، متحدّثاً عنه، وعن إسقاطات نعيمه وجنّته على أميركا اللاتينية، بجحيمها الدكتاتوري، ونعيمها الإبداعي، كما يفهمها زوريتا سياسياً واجتماعياً، واصفاً دانتي بأنّه "الشاعر الوحيد الذي تمكّن من أن يلمح الإله، مُدركاً أنّ الله، في واقع الأمر، ليس له سوى لون واحد: الوجه الآدمي. وبعد هذا كلّه، يرى دانتي ما لا يمكن أن يكون إلّا كمالاً: يرى الحبّ وهو يُحرّك النجوم".

ولكن إذا كان دانتي، كما قرأه زوريتا، قد جعلنا ننزل إلى الجحيم، ونصعد إلى النعيم، على الدرج نفسه، فإنّ الشاعر الأميركي والت ويتمان قد كشف لنا في قصائده "ليلاً لا يمكن الدخول إليه، وفي نبض هذا الليل، يرقد قلبٌ تتدفّق منه جميع الكلمات الموجودة داخل اللغة. ويبدو هذا الحشد من الكلمات التي ابتكرها ويتمان أنّه يؤكّد لنا حقيقة واحدة: الشعر هو الشيء الوحيد القادر على تأكيد خلق عالم جديد يمكن فيه اقتلاع كلّ هذا الدمار والخراب والكره، فيتوحّد الليل والنهار، الموت والحياة، العشب والريح. وهذا تماماً ما فعله ويتمان، خلق عالم من التناقضات الجميلة، لا يمكن فهم عالمنا هذا من دونه".

ويُخصّص زوريتا في الكتاب مقالات عدّة يتناول فيها "ظاهرة الشعر في تشيلي"، حيث يقرأ سلسلة الشعراء الكبار في بلده، التي افتتحها بابلو نيرودا، وبلغت عند الشاعرة غابرييلا ميسترال ذروتها: "ميسترال شيءٌ آخر. إنّها الريح الأمّ - على حدّ تعبيره - أمُّ كل شيء ولا شيء على الإطلاق". نيرودا بدوره، وكما قرأه زوريتا، كتبَ القصيدة التي لا يمكن نسيانها: "يمكن للنقد أن يمحو كلّ شعر العالم. لكنّ هذه القصيدة التي كتبها نيرودا لا يمكن أن يمحوها أحدٌ. جميع كتب العالم، حتى تلك التي يمكن أن نعتبرها تعيسة الحظ، فيها جُملٌ خالدة. وكتاب 'أعترف أنّني عشت' لنيرودا، هو كتابٌ خالد".

لا يُدرج بورخيس ضمن قائمة الشعراء الكبار

هكذا يضع زوريتا نيرودا على قائمة أعظم الشعراء في القارّة الأميركية اللاتينية، إلى جانب بابلو دي روكا، ونيكانور بارا، وغونزالو روخاس، وغيرهم. مع ذلك، سنلاحظ في مكانٍ آخر زوريتا أكثر حدّة، لا سيّما حين يؤكّد أن بورخيس الأرجنتيني، على سبيل المثال، "لا يندرج في قائمة هؤلاء الشعراء الكبار، ولا يرى فيه أحد أعظم كتّاب عصرنا. مع ذلك لا يمكن إنكار أنّ اللغة الإسبانية التي نكتبها احتفت ببورخيس أكثر بكثير من احتفائها بنجاحات نيرودا الرائعة والقليلة معاً".

وعموماً، تصعب الإحاطة بموضوعات الكتاب وأفكاره كلّها نظراً لكثرتها، والأسماء المتعدّدة الواردة فيه، وهي حصيلة قراءات زوريتا. وهذا ما يُبرز ثقافة عالية للشاعر التشيلي. فقد تنوّعت موضوعات الكتاب لتشمل ليس الشعر فحسب، بل الفنّ والرسم والفوتوغراف أيضاً. ويخصّص زوريتا مقالات عدّة يتناول فيها أعمال فنّانين كبار مثل فان غوغ، وموسيقيّين مثل التشيلية فيوليتا بارا، التي وصفها بأنّها "شكسبير تشيلي"، إضافة إلى مصوّرين فوتوغرافيين مثل لويس بويروت.

وعلى الرغم من تنوّع موضوعات الكتاب، وكثرة المبدعين الذين قرأهم الشاعر التشيلي، ثمّة خيطٌ رفيع يربط بين أفكاره وقراءاته لهؤلاء الكتّاب والفنّانين والشعراء الكبار الكلاسيكيّين والمعاصرين، ومفاد هذا الخيط هو أنّ كلّ عمل إبداعي عظيم، شعراً أو رسماً أو تصويراً، هو عملٌ أخلاقيٌّ بامتياز. في نهاية المطاف حلمُ الشاعر هو حلم الفنّان والرسّام نفسه: فعل الخير. وبالتالي فإنّ حلم القصيدة أو اللوحة أو الصورة هو ألّا يكون هنالك إنسان مدمَّر، وألّا يقتل إنسان إنساناً آخر. ولكن، لسوء الحظ، لقد كُتب على الإبداع، بكافّة تعبيراته، في كثير من الأحيان، أن يقول المأساة والآلام. ربما، لهذا السبب، تحديداً، تصيبنا الكلمات بالعجز، تكسرنا.

تتنوّع موضوعات الكتاب ويكثر المبدعون الذين يقرأهم

ومن يقرأ زوريتا لا يستطيع إلّا أن يفكر في المذابح التي لا تنتهي في التاريخ، لا يستطيع إلّا أن يسمع أصواتاً تدلّنا على الخراب والعنف والقلق والألم الحاضر دائماً في حياتنا. قصائد زوريتا حوار دائم مع الموتى، حوارٌ مع المظلومين والمشرّدين والمدمّرين، حوار مع صاحب الحقّ والأرض والتاريخ، حوار تتكسّر فيه الكلمة، تتكرّر، وتكسب قوّة البحث عن المعاني الحقيقية التي دُمّرت أو التي أخفوها عنّا.

هنا تبرز مقالته "رايتنا المهزومة"، التي كتبها الشاعر التشيلي كمقدمة لديوان "تَعِبَ الُمعلَّقون" للشاعر الفلسطيني الزميل نجوان درويش. نعم عزيزي القارئ لا تستغربّ! فزوريتا، علاوة على كونه شاعراً كبيراً، إنّه بالدرجة الأُولى، قارئٌ نهم، ومثقّفٌ على اطلاع عميق على حركة الشعر العالمية، وليست مقالته التي يتناول فيه شعر نجوان درويش إلّا دليلاً على ذلك.

هكذا يُدرج زوريتا نجوان درويش ضمن قائمة الشعراء الذين على حدّ تعبيريه "تُشكّل كتابتهم الشعرية ذروة اللحظات الإبداعية في عصرنا"، فالشعر الذي يكتبه درويش هو "في المقام الأوّل تعاطفٌ وتضامنٌ مع كلّ تفصيل من تفاصيل هذا العالم: من أجل الخبز والزيت، ومن أجل الفطور الأزلي، ومن أجل تلك الأرض الفلسطينية على وجه التحديد".

لكنَّ شعر نجوان درويش، كما يصفه زوريتا، لا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل هو شعر يطرح أسئلة جوهرية وعميقة عبر "الشخصيات الموجودة في كتابه، والتي طُردت من أرض أجدادها، وحوصرت واضُطهدت، بما في ذلك النساء اللواتي فقدن كلّ شيء: البيوت والأحياء والأطفال. إنّه شعرٌ يؤكّد حضور الآخرين، حضوري، وحضورك أيها القارئ، ليخبرنا جميعاً أنّ كلّ ما بقي منّا قد نجا على هذه الأرض المليئة بالضحايا والجلّادين، المُهجّرين والنازحين".

وينتهي زوريتا إلى نتيجة مفادها أنّ "قراءة شعر نجوان درويش تجعلنا نلمحُ حدود الخلود الذي لا يمكننا أن نتخلّص منه، الخلود الذي يحكم علينا بالموت. مع ذلك، إذا قرأنا شعر درويش يمكننا أن نحبّ هذا الحُكم بالموت، وإذا فعلنا ذلك، سنحبّ الأرض كلّها، رايتنا المهزومة".

لا شك أنّ ما نسمّيه الشعر هو قصّة تلك التعاويذ التي تُنقذنا من بشاعة هذا العالم وكلّ الظلم الموجود فيه والموت. حياتنا، ضمن هذا المعنى، تقوم على لحظات الإبداع هذه، على الأناشيد، على الشعر، وعلى القصيدة. ومنذ اللحظة التي وُلد فيها الموت على هذه الحياة، حين ارتُكبت الجريمة الأُولى، وقتل قابيل هابيل، كان ردّ الإنسان على هذه الحقيقة المرعبة التي لا تُقاس على الإطلاق، وغير المفهومة، القصيدة. في تلك اللحظة تحديداً بدأ الإنسان، وبدأت معه اللغة.

إنّ قراءة كتاب "مقالات مختارة" بلغته العالية، هي عودة إلى هذه اللحظات التي نشعر فيها أنّنا نتغلّب على الموت الذي لا يُقهر.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون