نهاد إسلامي: العودة إلى "فندق بيروت"

21 ابريل 2022
نهاد إسلامي
+ الخط -

منذ عقود ونحن لدينا بيت أو بوابة لكلّ من يأتي إلى كوسوفو من العالم العربي، إنّه نهاد إسلامي. ابتداءً من عبد الوهاب البياتي عام 1979، وصولاً إلى عبد العزيز آل محمود عام 2020، ومروراً بفهمي هويدي، وليلى العثمان، ووليد أبو بكر، وعبد العزيز السائحي، وعريب الرنتاوي، وغيرهم كثُر من أدباء وكُتاب وسياسيين عرب، كانوا يجدون لديه الترحيب بعربية مكّسرة ومشاعر مقدِّرة، تعبّر عما اكتسبه من سنوات طويلة متجولاً في الدول العربية من الخليج إلى المحيط. 

بدأت علاقة نهاد المبكّرة بالعالم العربي مع والده سعيد إسلامي، أستاذ التاريخ بالمدرسة الإسلامية في بريشتينا؛ الوالد الذي درس العربية والتّاريخ والعلوم الإسلامية في "مدرسة الملك ألكسندر" العليا في مدينة سكوبيه المقدونيّة. واتّجه نهاد إلى الصحافة وتخرّج في كلّية الحقوق في زغرب الكرواتية، حيث بدأ عمله عام 1966 في الجريدة الكوسوفية الأولى "ريلينديا" بقسم السياسة الخارجية. ونظراً لتطوّرات الوضع في الشرق الأوسط مع حرب 1973، أوفدته الجريدة مراسلاً لها إلى بيروت في خريف العام التّالي، حيث بقي هناك إلى عام 1979. ثمّ عاد بعدها ليشغل مناصب إعلامية عديدة، ويتابع الكتابة عن المنطقة التي أحبّها فاستحقّ بجدارة لقب "عميد الصحافة الألبانية للشرق الأوسط".

خلال عمله في بيروت تجوّل في المنطقة العربية، والتقى بشخصيات كانت أو بقيت حاضرة في الساحة مثل: خليل الوزير وفاروق القدومي، ووليد جنبلاط وجلال الطالباني، وغيرهم. وكانت تغطيتُه للحرب الأهلية في لبنان شبه يَومية وتُقرأ باهتمام كبير. وفي هذا السياق جاءت شهادته عن حصار "مخيّم تل الزعتر"، حتى اقتحامه والمجازر التي ارتُكبت في مخيّمَي صبرا وشاتيلا، الأمر الذي أثار فيضاً من "الشِّعر الفلسطيني" عند الألبان خلال سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي. حتّى بعد أن عاد إلى وطنِه، ظلّ نهاد إسلامي يحاول الرجوع إلى المنطقة العربية والكتابة عنها، وهذا جعل كتاباته مصدراً للجيل الجديد من الدبلوماسيّين الكوسوفيّين في المنطقة العربية.


ما بين الطبعة الكوسوفيّة والطبعة الألبانيّة

نشر نهاد إسلامي مختاراتٍ من مقالاته عن الشرق الأوسط عام 2014 بعنوان "فندق بيروت"، التي صدرت عن "دار كوها للنشر". واستُقبلت بشكلٍ جيّد، مذكّرةً برائد المُراسلين الحربيّين والمتخصِّصين الألبانيِّين بالشرق الأوسط. وقد تزامن صدورها مع دَورة جديدة من العنف والحروب، في المنطقة المُمتدّة من ليبيا إلى العراق، مروراً باليمن وسورية، وصولاً إلى لبنان العزيز عليه، الذي وصله سابقاً حين كان يُطلق عليه "سويسرا الشرق" وإنْ من باب التمنّي. لذا، رأى المؤلّف أن يعيد إصدار الكتاب مع مقالات جديدة كي يبقى مرجِعاً لمن يهمّه أمرُ المنطقة، خاصة بعد أن أُلزِمت كوسوفو حسب "اتفاقية واشنطن"، بفتح سفارة لها في القدس باعتبارها "أوّل سفارة لبلد مسلم".

استُقبلت مذكّراته باهتمام لتزامنها مع "الربيع العربي"

يبدو الفرق واضحاً بين الطبعتين، فالطبعة الأولى خُصّصت تقريباً للقارئ الكوسوفي، بينما جاءت المبادرة في الطبعة الجديدة من قِبل "اتحاد الصحافيين الألبانييّن"، الذي حرص رئيسه ألكسندر تشيبا على أن يكتب مقدّمة الكتاب، وأن يأتي على رأس وفد من ألبانيا للمشاركة في حفل إشهار الكتاب في بريشتينا. بهذا فُتح الطريق أمام "فندق بيروت" للوصول إلى القارئ في ألبانيا، التي تحتضن عاصمتُها "سفارة دولة فلسطين" منذ 1989.

غلاف الكتاب
(غلاف كتاب "فندق بيروت")

في مقدمته عن هذا العمل كتبَ ألكسندر تشيبا: "إنّه يكسر الصّورة النمطية عن الصحافة الألبانيّة، بأنها محليّة ومحصورة في إقليم محدود، ولا يوجد فيها من يتابع الشؤون العالميّة أو تنقصها ثقافة المتابعة الميدانية". كما رأى فيه دليلاً لكلّ دبلوماسيٍّ شاب أو مهتم بالشرق الأوسط، ليتعرّف على تطورات العقود الأخيرة والمعاناة التي مرّت بها شعوب المنطقة. وذكّر تشيبا بأن إسلامي وصل إلى بيروت قبل اندلاع الحرب الأهليّة في ربيع عام 1975، التي لم يتوقّع أحد أن تمتدّ طولاً وعرْضاً. لكنّ عميد الصّحافة الألبانيّة تمكّن من التعامل مع الحرب بوصفها مدرسةً ميدانية لصحافيّ شابٍّ حينها، فأثبت كفاءة عالية في تحليل دور اللّاعبين الرئيسين فيها، ثمّ جاء إسهامه الكبير، المتمثّل في كونه شاهد عيَان على حصار مخيم "تلّ الزعتر"، وأنّه مِن أوائل مَن كشف عن مجازر مُخيّمَي "صبرا وشاتيلا".


استشراف ما بعد الربيع العربي

في القسم الجديد من كتابه رأى إسلامي أنّ العرب، بعد نهاية الحكم العثماني، بدا لهم كأنّ "الربيع" قد حلّ فعلاً. ولكنْ، في كلّ مرّة كانت مواجهة الاحتلالات الجديدة تُغرِق بشائر المستقبل العربي بالدّم. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتصاعُد حركات التحرر في آسيا وأفريقيا ونَيْل بعض البلدان الاستقلال، فُتِحت الأبواب مُجدّدا لـ"الربيع العربي". ثمّ سرعان ما سدّها حكّام عسكريون اغتنَوا وسعَوا إلى توريث أولادهم الحكم، كما في العراق وسورية ومصر واليمن، وحكّام آخرون تشاطروا في نهب ثروات بلادهم وتهريبها إلى بنوك الخارج.

حلّ "الربيع" مرّة أُخرى مع نهاية عام 2010، ليغمر العالم العربي بالأمل من المحيط إلى الخليج. وباستثناء تونس التي نعمت بفترة سلمٍ نسبيّ، شهدت البلدان الأُخرى صراعات وتدخّلات من قوى إقليميّة وخارجيّة، فانتهتِ الجولة الأولى بفوز وحيد في تونس مقابل خسائر عديدة. ومع هذا التحوّل، ظهر تحدٍّ آخر في المشرق، ألا وهو تنظيم "داعش" وما شابهه من الجماعات المتطرّفة التي بلغت ذروتها بين عامَي 2014 و2017، وتبع ذلك دمار كبير باسم الإسلام أو "الدولة الإسلامية". بيد أنّ "الربيع العربي"، وفقاً للمؤلّف، قد انبعث بعد سقوط "داعش"، وهذه المرة في بلاد المغرب العربي، عندما أُزيحَ أعتى وأسوأ نظام حكم يمثّل الفساد بين أنظمة ما بعد الاستقلال، والمقصود هنا نظام الجزائر.

يعتبر أنّ للعرب تاريخاً متراكماً وآنَ أوان التعلّم منه 

في استشرافه لـ"الربيع العربي" المنتظر، ومقارنته إيّاه بـ"ربيع أوروبّا الشّرقية" الذي تتوّج بهَدم جدار برلين، رأى نهاد إسلامي بعض الاستعصاءات مثل: عدم حلّ مشكلة فلسطين، وتهاوي "سويسرا الشرق".. إلخ. ولو أنّ بعض البشرى قد لاحت في ليبيا وانتخاباتها الرئاسية أواخر عام 2021، لكنّها لم تتحقّق بالطّبع. في حين تبقى المشكلة في الانقسام العمودي في المجتمعات العربية، بين من يؤمنون بالديمقراطية كقيمة عالميّة ومن يؤمنون بالدولة الدّينية. لذا أمل إسلامي أن يُمثل الحلّ الوَسط، الذي تمّ التوصُّل إليه في تونس، نموذجاً للبلدان الأخرى. ولكنّ الكتاب الذي ألّف قبل أن يُعلّق الرئيس التونسي قيس سعيّد معظم فصول الدستور ويُجمّدَ البرلمان، يجعل تفاؤل نهاد إسلامي خارج السّياق الجديد. ومع ذلك يُنهي المؤلّف كتابه بجملة تفيدُ ترجمتها: "إنّ العرب أصبح لهم تاريخ متراكم وآن الأوان أن يتعلّموا منه".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون