يقدّم واصف جوهرية في مذكّراته التي دوّنها في أربعة مجلّدات، مزيجاً من سردٍ شائق ليومياته في مدينته؛ القدس منذ العقد الثاني من القرن الماضي وحتى بدايات الاحتلال الصهيوني، ومن ملاحظاته وتأملاته العميقة حول جملة التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشتها فلسطين خلال ما يقارب ثلاثة عقود.
يكتب المؤرخ والملحّن والفوتوغرافي الفلسطيني واصف جوهرية (1897 – 1973) الذي تمرّ، اليوم الثلاثاء، ذكرى خمسين سنة على رحيله، تحت عنوان "المعارف" بأن الأرقام الرسمية دلّت على أن عدد الطلبة والطالبات العرب في المدارس الحكومية في آخر العهد العثماني بلغ تسعين ألفاً، بينما كان عدد السكان (في فلسطين) حينئذ لا يتجاوز 600 ألف نسمة. أما في عام 1945، فكان عددهم مئة وواحد وعشرين ألفاً بينما كان عدد السكان 1.250.00 مليون نسمة، وهذا أكبر دليل في تجهيل عرب فلسطين بواسطة بريطانيا زمن الانتداب.
ويسجل أيضاً تحت عنوان "وصف ما أمكن تدوينه من حوادث بعد قرار التقسيم (قرار الأمم المتحدة رقم 181 في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين): "أصبح الجو مكفهرّاً في طول البلاد وعرضها إثر قرار التقسيم، وقد شاهدت العجب العجاب في القدس، لأن فرح اليهود وما قاموا به من احتفالات قومية علناً في الشوارع، الأمر الذي استفز شعور العرب وأصبحوا يحقدون على بريطانيا واليهود".
لم يكتف بتسجيل مذكراته في القدس، بل وضع سبعة مجلدات تضمّ صوراً للمدينة التقطها نهاية الحقبة العثمانية
ويتابع "واتخذت العرب في بادئ الأمر قراراً بالإضراب لمدة ثلاثة أيام تنفيذاً لبيان صدر عن الهيئة العربية العليا، وبالفعل جرى الإضراب في صباح الثلاثاء 23 كانون الأول 1947 مظهرين للعالم غضبهم واستياءهم من قرار تقسيم فلسطين الجائر، وبالطبع قامت المظاهرات..". وفي تسلسله للأحداث حتى المساء، يكتب جوهرية "ولما كان موقع دارناً استراتيجياً بالفعل، نشاهد هذه المنطقة (يقصد تلة باب الخليل، وشارع مأمن الله، وشارع يافا) بسهولة فائقة، رأينا في سكون الليل كيف أن الجيش البريطاني وفئة من بوليس الانتداب اليهودي تحت رئاسة الضابط المستر لينكر كان يأتي بشبان اليهود ويساعدهم بفتح أبواب مخازن تجار العرب في المركز التجاري أمثال رشاد بركات وميشيل منة وغيرهم، ويتساهل معهم لنهب أثواب القماش من الحرير والصوف ثم يدعهم يحرقون ما يرغبون من هذه المخازن..".
ويشير الباحثان عصام نصار وسليم تماري في طبعة المذكرات التي صدرت عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" بمجلّدين عام 2003 و2005، بعنوان "القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية، 1918-1948" بتقديمها، بأنها تركّز على الجانب الخفي من الحياة الخاصة لوجهاء القدس وأعيانها. وعلى سلوكيات النخبتين العثمانية والبريطانية من عسكر وسياسيين، وعلى فضائح وبطولات الناس العاديين التي ولد واصف جوهرية وكبر في أحضانها، وهي تقلب العادي والروتيني إلى مشهد عجائبي، وتسمح لنا برؤيته بأعين جديدة. برزت خلال الحرب العظمى أنماط وممارسات اجتماعية جديدة في الحياة المدينية، وتبلورت في فترة الانتداب.
جوهرية الذي تعلّم في المدرسة الدستورية التي أنشأها خليل السكاكيني في سنة 1909، درس الموسيقى على يد المعلّم الشيخ عمر البطش الحلبي الذي يُعدُّ من أبرع عازفي العود في الفترة العثمانية، ثم خدم في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، وفي البحرية العثمانية في البحر الميت، كما عمل في الإدارة البريطانية الانتدابية ككاتب في قسم ضرائب الأراضي.
لم يكتف بتاريخ مدينته في مذكراته بل وضع سبعة مجلدات أخرى تتضمّن مجموعات فوتوغرافية تعكس الحياة اليومية في القدس خلال نهاية الحقبة العثمانية، وفترة الاستعمار البريطاني، وجمع في مجلد "الدفاتر الموسيقية" سجلاً للموسيقى الشعبية التي انتشرت في فلسطين في بداية القرن العشرين، ودوّن ألحانها وكلماتها، كما عزف في عدة فرق موسيقية مقدسية وفي أوركسترا "إذاعة القدس"، وبعد نزوحه القسري سنة 1948 إلى بيروت، اشتغل عازفاً في "الإذاعة اللبنانية".