وقفة مع سالم الهنداوي

07 ديسمبر 2023
سالم الهنداوي
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أفكّر في غزّة التي تعيش أكبر جريمة إبادة جماعية في هذا القرن"، يقول الكاتب الليبي في لقائه مع "العربي الجديد".



■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- يشغلني اليوم حال غزّة المقاوِمة وما تتعرّض له من مذبحة "هولوكوست" نازية جديدة على يد الصهيونية والإمبريالية التي استفردت بأهالينا في غزّة أطفالاً ونساءً وشيوخاً ومرضى. لم تستثن أحداً في عدوانها، لا البشر ولا الشجر ولا الحجر، في أكبر جريمة إبادة جماعية في هذا القرن من زمن الخذلان الدولي، الذي بدأ مطلعُه بألفية الانهزام العربي أمام تحدّيات الوجود، وانتهى بمذبحة الشرف العربي في فلسطين الأبيّة.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك المقبل؟

- عملي الأخير صدر في القاهرة مطلع هذا العام وكان المجموعة القصصية "نافذة الغريب"، وقبلها رواية "ليل بيزنطي" التي صدرت في بيروت بمشروع سردي تجريبي وبرؤية جديدة استوعبَت تناقضات الحالة العربية الراهنة، واعتماد اللغة الساخرة في تجسيد الواقع السياسي العربي وتناقضاته. وقد استطعتُ، في هذا العمل، الاقتراب من محرَّمات السلطة السياسية والأمنية ورؤيتهما معاً في مكافحة الأصولية والإرهاب.

وكما أنّ الرواية التي تشعبّت فصولها في حياة المدينة وعمقها السفلي، استطاعت بلغتها الشعرية أن تُثير الحواس الكامنة في النفس البشرية، وأن تكشف المستور في الحياة الاجتماعية والمسكوت عنه، مثل الفقر والبطالة والجهل والاستغلال الجسدي والطرب الهزيل والسقوط الأخلاقي بين سائر الطبقات، ممّا جعلها في غير قراءة نقدية قيمةً روائية عالية تُضاف إلى مسيرة الرواية العربية السياسية والاجتماعية التي كانت تراجعت في وقتٍ سابق نتيجة المنع والمصادرة العلنية باسم الدين والسياسة.

أمّا عملي المقبل، فهناك العديد من مشروعات الكتابة السردية، منها الحكاية والرواية، لكنّي لم أفرغ بعدُ من إنجازها بسبب الحالة الليبية المتردّية أمنياً وسياسياً، وانعدام الاستقرار النفسي للكتابة الطويلة.

وددتُ لقاء صلاح الدين الأيوبي لأكون جنديّاً في جيشه

■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟

- راضٍ بقدر رضى الوالدين على أبنائهم، لكنّي في النتيجة أطمح إلى أن يكون لكتاباتي صدىً نقدي في المنتديات العربية والصحافة الثقافية، واهتمام بالمتابعة والدراسة والانتشار والترجمة، ومسرحة بعضها والإنتاج الدرامي لبعضها الآخر، فكُلُّنا يحب أن يكون أبناوه مميّزين وفاعلين في المجتمع ولهم قيمة بين الناس. وهنا لا أقول "لماذا"؟ لأن رصيد هذا العطاء كان نتاج مرحلة مبكِّرة تأسّست بعواملها الضاغطة. أمّا القادم بعد هذا الرصيد، فيحتاج إلى الكثير من التدبير، بعكس بداياتي في سبعينيّات القرن الماضي، التي كانت مدفوعة بروح المغامرة والحماس، وهي المرحلة الأهمّ لأدب الشباب في ليبيا والوطن العربي، والتي قادت حركة التجديد في الإبداع الشعري والقصصي.


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- سأختار كتابة الرواية لبراحها وفضائها المفتوح على كُلّ الفنون، فهي العالم الفسيح بالرؤى وجمال اللغة والتفاصيل وإدهاشات المضامين حين تكون سارداً متمكِّناً من أدواتك... لكن هناك من يمتلك الوقت لهذه المغامرة الجميلة، وهناك من يضيق صدره فيستعجل النهاية كما استعجل البداية. وهنا أقول إنّ الرواية الأجمل هي تلك التي تكتبها لذاتك بعيداً عن هاجس النشر ومستويات التلقّي، حينها ستكون الرواية وليداً إبداعياً ذاتياً متحرِّراً من كُل القيود، وتأتي دور النشر بعد ذلك ضمنياً، كرفع الستار عن تمثال صنعته ذاتُك لك، وعليك أن تراه بعد ذلك كما يراه غيرك.
 

رحلة نوح الأخيرة

■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- تغيير كُلّ شيء في النفس والوجود، تواريخ مواليدنا وأماكن ولاداتنا، وتغيير الثورات المزعومة والانقلابات والخطابات السياسية. نحتاج إلى سقوط "تمثال الحرية" في نيويورك، وإلى اعوجاج "برج إيفل" وإلى عطل ساعة "بيغ بن"... نحتاج إلى العودة للاستعمار القديم لكي نتحرّر من جديد وننال استقلالنا بطريقة أُخرى مُختلفة عن الطريقة التي منحتنا إياها الأمم المتّحدة وأوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم. ماذا عسانا نغيّر في كُلّ شيء حتى في الوسط الفنّي الركيك والهزيل، نحتاج إلى زمن شوشو وشكوكو وفهد بلّان ومريم فخر الدين، وإلى مصر الخمسينيّات وليبيا الستينيّات، وفلسطين المقاومة بالحجارة في الثمانينيّات، وإلى الانتصار بدل الهزيمة في عام 1967، ونحتاج إلى هزيمة الإنكليز قبل أن يأخذوا منّا فلسطين ويعطوها لليهود.. نحتاج أن يبكي الصهاينة على حيطان بيوتهم في الشتات بدل البُكاء على حيطان بيت المقدس.. وأحتاج، أنا سالم الهنداوي، أن أولَد من جديد في جزيرة نائية ترى العالم والعالم لا يراها.


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

- وددتُ لقاء صلاح الدين الأيوبي قبل حربه مع الصليبيّين، ولأكون الكردي الثاني في جيشه البطل لتحرير القدس الشريف من الدنس، وأن أبسط جيشي على كامل تراب فلسطين دون الدولة الكردية أو العربية، وأن أزرع راية الإسلام على كُل التلال الفلسطينية، في نابلس والجليل وبيت لاهيا وبيت حانون وفي يافا وحيفا والقدس والناصرة وبيت لحم وجنين وعلى مرتفعات جبل أبوغنيم، فأمنع الصهاينة من تهجير اليهود إلى فلسطين بسردياتهم المزيّفة المزيّفة، حيث "أورشليم" هناك على سفح جبل أسود في اليمن تقطنه الجوارح، وليس هنا في "القدس" الكنعانية أولى القبلتيْن وثالث الحرميْن.. سأستجدي صلاح الدين أن يبقى طويلاً في القدس يحميها بسيفٍ ورمح دون سائر العرب الذين خسروا لاءاتهم وصنعوا جامعتهم بأمرٍ من الإنكليز لتعزيز الفرقة بخريطة "سايكس بيكو"... سأقول لصلاح الدين عُد إلى حربك الأُولى أيها الأيوبي البطل، فحربنا الأخيرة سقطت فيها أعلام العرب.

الرواية الأجمل هي التي تكتبها لذاتك بعيداً عن هاجس النشر

■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- يخطر ببالي صديق لم أره في حياتي، لكنّه يظهر في ملامح الكثير من أصدقائي الذين يغادرون الأمكنة ويهاجرون ويموتون... صديق أراه طيفاً ثم يغادرني وهو يبكى سرّاً في غربته، يشتهي العواصم كما أشتهيها ويبتعد عن الناس حين يصبحون وحوشاً... صديقي هذا هو أنا، وكتابه الذي أعود إليه هو كتابي الذي أعيش احتمالاته ولم أكتبه.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ كُلّ كتاب جديد يقع في يدي، لكنّي أعود أحياناً إلى كتبي القديمة التي كنتُ قرأتها قبل عقود، ليس لمعرفة جديدة، وإنما لأعيش تلك الفترة حين كان للكِتاب قيمة، وكان عمالقة الفكر والأدب والنقد والفلسفة يكتبون بوعي الاستشراف ويبهروننا بعطاءاتهم. لقد شغفتُ بالقراءة الدؤوبة في الزمن الذهبي للقراءة، صحيح أنّ الكِتاب خير جليس، لكن كِتاب اليوم وكُتّاب اليوم تنفر من جلّهم الملائكة بسبب الغشّ والكذب والادّعاء. 


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- مازلتُ العاشق لصوت فيروز، وفي محطّاتٍ من حياتي مررتُ بالعديد من الأصوات العربية والغربية الجميلة، لكنّي كنتُ في كُل مرّة أعود لفيروز وكأنها هناك تنتظرني بعد طول اشتياق، أستمع لأغانيها القديمة بروائع عاصي ومنصور، وبروائع زياد التي أخذت الملكة من يدها إلى شُرفة المطل في دندنات بلا شكّ نقبلها من فيروز دون سواها، حتى وإن صمتت بعدها عن الغناء، فعلى رأسها تاج الملكة الذي لا يسقط... فيروز استثناء لأنّها كانت معي في صباي وفي أولى خواطري في مطلع السبعينيات، بل وكانت رفيقتي وونيستي في غُرفي الصغيرة بالفنادق العتيقة. كانت معي في بنغازي كما في طرابلس، وكما في بيروت ودمشق وروما وأثينا ونيقوسيا، وكنتُ محظوظاً ذات شتاء في غربتي في صوفيا عندما فاجأني صديقي البلغاري سلافكو، وغنّى لها وهو يعزف بأجمل أغانيها القديمة تحت المطر.



بطاقة

كاتبٌ وصحافي ليبي من مواليد بنغازي عام 1955. من إصداراته في القصّة: "الجدران" (1978)، و"الأفواه (1984)، و"أصابع في النار" (1986)، و"ظلال نائية" (1999)، و"نافذة الغريب" (2023)، وفي الرواية: "الطاحونة" (1985)، و"خرائط الفحم" (1994)، و"رحلة نوح الأخيرة" (2019)، و"ليل بيزنطي" (2019). من كتبه الأُخرى: "رصيف آخر" (1994)، و"حائط اليوم السابع" (2005)، و"أوراق في رياح الشرق" (2006)، و"أصحاب المغيب" (2015).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون