تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أتمنى السير قدماً في القضاء على كل مركزية ترفض الآخر"، تقول الباحثة المصرية في حديثها إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- ينصبّ اهتمامي في الفترة الأخيرة على ترجمة كتاب "علم العلم"، وهو مجموعة دراسات ومباحث تهتمّ بفلسفة العلم، أي تجعل من العلم ظاهرةً في حدّ ذاته. فعلم الرياضيات والعلوم التجريبية تتقدّم بمعرفة أوسع عن شتّى الظواهر الطبيعية والحيوية والإنسانية. لكن، ماذا عن ظاهرة العلم ذاتها وأبعادها وآليّاتها وطبائعها؟ ألا ينبغي تفهّمها ومعرفتها، أم هو كما يقال: "كالعيس في البيداءِ يقتلُها الظما/ والماءُ فوق ظهورها محمولُ؟". إلى جانب هذا الانشغال هناك طبعاً أعمال التدريس وتغيّراتها في زمن كورونا، حيث فرض علينا الفيروس التواصل عن بعد، عبر المنصات الإلكترونية، وفي هذا الإطار أقوم بإعداد بحث عن غاليليو غاليلّي.
■ ما هو آخر عمل صدر لك؟
- على المستوى التأليفي، آخر إصداراتي كتاب "توطين المنهجية العلمية: مقاربات فلسفية وتاريخية ومستقبلية"، عن "دار نيوبوك". وفي الترجمة، صدر لي كتاب "تيم كرين، الذهن الآلة: مقدمة فلسفية في الأذهان والآلات والتمثيل الذهني" عن "المركز القومي للترجمة". صدرت لي أيضاً في الشهور الماضية ستة أبحاث علمية محكّمة في ستة بلدان مختلفة، هي: الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا والعراق واليابان والسعودية، فضلاً عن بحث في "مجلّة الجمعية الفلسفية" في مصر.
■ ما هو عملك القادم؟
- هو ترجمة لكتاب أندرو مارش - أستاذ مساعد في العلوم السياسية في "جامعة ييل" - بعنوان "الإسلام والمواطنة الليبرالية: بحثاً عن إجماع متشابك"، وهو كتابٌ ضخم، تحت الطبع حاليّاً في "المؤسسة العربية للفكر والإبداع" ببيروت، وكان قد صدر عن "منشورات جامعة أوكسفورد" عام 2009. يمثّل هذا العمل سبراً لليبرالية السياسية وتطوّراتها، وبشكل مواز لتراث الحضارة الإسلامية وظواهرها الراهنة معاً؛ من أجل تقنين مفهوم المواطنة، استكشافاً لحقوق وواجبات المسلمين المتوطّنين في الغرب، تحت مظلة ديمقراطيات ليبرالية. وفي مقابل المشاكل التي أثيرت في فرنسا أخيراً بشأن الرسوم المسيئة، يتقدّم هذا الكتاب بنمط راقٍ من الحوار بين الإسلام والغرب. إنه إضافة إلى فلسفة التسامح، كي لا نظلّ في الماضي، مرابطين مع الفيلسوف جون لوك في القرن السابع عشر.
■ هل أنت راضية عن إنتاجك ولماذا؟
- أنا راضية جداً عن الرسائل الجامعية والدراسات والمقالات التي أصدرتها. حاولتُ تقديم طرح متعمّق متكامل لفلسفة العلوم الغربيّة، لا يقتصر على الاستيراد والترديد، بل يستوعبها ويتجاوزها إلى التفعيل لإثراء ثقافتنا وتوطين الروح العلمية؛ فلا يعود العلم غريباً مغترباً، مستورداً من الغرب. يرضيني أن أساهم في تحقيق التقاطع بين المشترك الإنساني والخصوصية الثقافية، أو بالأحرى التفاعل والتلاقح المثمر الخلّاق بين الثقافات.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
- المسار عينه الذي اخترته عن يقين. كنتُ من أوائل دُفعة الثانوية العامة، وكانت الإمكانيات الدراسية والمادية تتيح لي اختيار أيّة دراسة أريدها. وصمّمت وقتها على دراسة الفلسفة لا سواها. واخترت أيضاً أن أدرس في "آداب القاهرة"، حيث قسم الفلسفة أعرق قسم في أعرق كلّيّة في أعرق جامعة في البلد. صدرت العشرات من أبحاثي وإسهاماتي ومشاركاتي في مراكز الأبحاث والمؤتمرات الدولية، ومثّلتُ بلدي في حوالي ثلاثين بلداً، وطَلبتي يُعَدّون بعَدد يتكوّن من أربعة أصفار في أربع قارات، كما أنني حصدت 15 جائزة علمية. مع هذه المسافة، أستطيع القول بأن كل لحظة أقضيها في محراب الفلسفة تثبت لي أن اختياري هو الأروع.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- لقد انتهى عصر الاستعمار القديم، عصر المركزية الغربية وواحديّةِ نموذجها. وأتمنّى السير قُدُماً في القضاء على كل مركزيّةٍ/ واحديّةٍ ترفض الآخر وقد تنكّل به، لأن المركزيّة والواحديّة هما مصدر الاستبداد والتطرّف والإرهاب. أتمنّى أن يواصل العالم السير في اتجاه التعدّديّة الثقافية؛ تعدّديّة الرأي والاتجاهات. التنوّع البشري الخلّاق هو الذي يصنع ثراء الحضارة الإنسانية وتآلفها، من دون تفريق بين مركز وأطراف، أو متبوع وتابع.
■ شخصية من الماضي تودّين لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- الحسن بن الهيثم. لأنّ العلم أنبل ظواهر الحضارة، وفلسفة العلم أشدّ فروع الفلسفة تجريداً وتمثيلاً للتطوّر الحضاري والذهني، والمنهج العلمي عصب فلسفة العلم. هذا الرجل أسّس علوم الضوء والإشعاع، وهو رائد عظيم في منهج العلم الرياضيّاتي التجريبي، نظريةً وتطبيقاً. وهو شخصية محوريّة في تاريخ العلم. ساهم كثيراً في التمهيد والتأسيس لثورة العلم الحديث، وهذا ما فصّلته في بحثي: "ابن الهيثم في أوروبا إبّان عصر النهضة"، الصادر أخيراً في إيطاليا باللغة الإنكليزية. وفي وقت سابق كنت قد أنجزت حول ابن الهيثم بحثاً نُشر في أميركا، عن تطويره لمفاهيم الفيزياء الرياضية، وخصوصاً مفهوم المكان.
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
- طيف أبي ماثلٌ دائماً، وذكراه النورانية تسطع شمساً تُشعّ المثال والمعنى والقيمة. أستدعي ذكراه في كل موقف لأهتدي أو أقنع بقراري، أو أسعد بإنجازي. ثمانية وثلاثون عاماً مضت على رحيله وما زال يملأ قلبي وعالمي ومنطلقاتي ومُثلي وتوجّهاتي.
■ ماذا تقرئين الآن؟
- بصدد قراءة رسائل دكتوراه يجري إعدادها تحت إشرافي؛ إحداها تحمل عنوان "التعدّديّة الثقافية وأثرها على المنهجية العلمية"، وأخرى حول المنطق التطبيقي، وموضوعها المقاربات الإبستمولوجية للمغالطات المنطقية.
■ ماذا تسمعين الآن وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أحبّ القصائد حين تشدو بها أم كلثوم: "أراك عصي الدمع"، "ولد الهدى"، "سلوا قلبي"، "الأطلال"، "أغداً ألقاك"، "من أجل عينيك"، "مصر تتحدث عن نفسها"... أتمنّى أن يتشارك الجميع سماعَها، فهي قِمَمٌ في الأداء وفي الإيقاع، في المبني وفي المعنى، في الكلمة وفي النغم.
بطاقة
باحثة مصرية متخصّصة في فلسفة العلوم من مواليد 1955. أستاذة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وباحثة زائرة في "مركز الأبحاث الدولي" في كيوتو، و"جامعة أحمدُ بلو" في نيجيريا، و"جامعة هيلدسهايم" بألمانيا في إطار برنامج "نساء فيلسوفات". صدرت لها منذ العام 1987 قرابة ثلاثين كتاباً بين تأليف وترجمة، من أبرزها: "فلسفة كارل بوبر: منهج العلم، منطق العلم" (1989)، و"الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية" (1990)، و"فلسفة العلم في القرن العشرين" (2000)، و"ركائز في فلسفة السياسة" (2008). ومن ترجماتها: "أسطورة الإطار" لـ كارل بوبر، و"أنثوية العلم" لـ ليندا جين شيفرد.