رغم أنّ حياته كانت حافلة على مستوى الاشتغال بالفلسفة، وبوجه الخصوص الماركسية منها؛ ورغم أنّه خاضَ الكثير من المناقشات السياسية لعقود طويلة، وكان شاهداً على احتلال بلاده من قِبل النازيّين خلال الحرب العالمية الثانية، ثم على التصدّعات التي عصفت بحزبه الشيوعي الفرنسي في ستينيات القرن الماضي؛ مع هذا كلّه، يُمكن القول: إنّ سيرة المُفكِّر الفرنسي لويس ألتوسير (1918 - 1990)، التي احتوت كلّ ما سبق، قُيِّدت بيوم واحد فقط، هو السادس عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1980، والذي يُلخّص كلّ معاناة عاشها: إنه اليوم الذي قتل فيه الفيلسوف زوجتَه هيلين ريمان.
"ويدوم المستقبلُ طويلاً" عنوان السيرة الذاتية لرجُلٍ وُصف بأنه المُعادِل الفرنسي للمُنظِّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، والتي صدرت ترجمتُها العربية حديثاً، عن "دار صفحة سبعة"، بتوقيع المترجِم السوري إياد عيسى. ليس الكتاب بعيداً عن إطار السِّير الذاتية العام، إذ يحضرُ فعلُ التذكّر بقوّة في زواياه: يعود بنا إلى الجزائر حيثُ وُلد هناك، إبّان الاستعمار الفرنسي لها، وعلاقته بأمّه طفلاً صغيراً.
من الاعتقال وسنوات تجديد الماركسية إلى قيامه بقتل زوجته
كما يعرضُ سيرته الفكرية الأُولى في مدينة ليون، التي تلقّى فيها تعليماً دينياً كاثوليكياً، قبل أن يُصبح ماركسياً مع انتسابه للحزب الشيوعي عام 1948. وإذا كانت كلّ هذه التجاذُبات قد عبّرت عن تجربته الفكرية، فإنّ الوقوع في الأسْر، بُعيد الاحتلال النازي لفرنسا عام 1940، هو ما سيترك الأثر الأعمق في شخصيّته وعلى صحّته العقلية عموماً، والتي بدأت منذ ذلك الحين تعتلّ وتنكص مراراً - رغم المعالجة بالكهرباء - حتى رحيله.
لكنْ هل تجربة الاعتقال هذه وحدها ما صنعت منه مُفكّراً؟ نتساءل ونحن نقرأ صفحات هذه السيرة. في الحقيقة يُمكن النظر إلى تجربة الاعتقال على أنها اكتفت بتحفيزه، ولكنّها لم تصقل تكوينه الفكري بشكل كامل، بقدر ما ألحقت به من ضرر وأذىً. وبالتالي، لئِن كان في فكره على تقاطُعٍ مع صاحب "دفاتر السجن"، إلّا أنّه ليس كذلك من ناحية التجربة ذاتها، فالسجن قد صنع غرامشي في نهاية المطاف. وعليهِ يصير لزاماً أن ننظر إلى الجامعة، التي التحق ألتوسير بكادرها التدريسي، وهو في عُمر الثلاثين، على أنّها المضمار المعرفي الذي أنتج اشتغالاته فيه.
بالوصول إلى الستينيّات صار ألتوسير جاهزاً لتوقيع مقولته الفلسفية الخاصة به، مُقدّماً واحداً من أبرز كتبه: "من أجل ماركس" (1965)، إلى جانب الكتاب الجماعي "قراءة رأس المال" الذي وضعه في العام نفسه مع تلامذة لديه. وبهذَين العمَلَين كان قد أفصح عن نقد صارم لكلّ النزعات "الإنسانوية" التي اخترقت الماركسية، والتي لا ينبغي أن يُقرأ التاريخ - برأيه - وفقاً لها. كما عُرِف عنه، في هذه الفترة، تقسيمُه لحياة كارل ماركس وفق مفهوم بُنيوي، ميّز من خلاله بين مراحل عُمرية مختلفة مرّ بها الفيلسوف الألماني، وربَط كُلّاً منها بأحداث سياسية معيّنة، عصفت بأوروبا خلال القرن التاسع عشر.
لكنّ الحدث الأبرز في هذا العقد، هو الثورات الطلّابية التي اشتعلت في أيار/ مايو 1968، والتي كانت الجامعات بوصفها مؤسّسات دولتية، محطّ استهداف لأعمالها الاحتجاجية الواسعة التي هزّت بقوّة فكرة "الاستقرار" الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، وفيها لعبت تنظيراتُ المفكّر الفرنسي دوراً مُلهماً للمنتفضين، رغم ما أبداه من التزام بموقف الحزب الشيوعي المتحفِّظ حينها.
يبقى الفصل الأول من السيرة، والذي احتوى تفاصيل اعترافِه بقتل زوجته، أثناء "تمسيده لعنقها"، هو الأكثر سوداوية؛ فصحيحٌ أنّه قد سلّم نفسَه بعدها للسُّلطات، وقضى فترة من محكوميّته في مصحّ نفسي، قبل أن يخرج منهُ؛ بحُكم أنّ جُرمَه قد ارتُكب بتأثير من حالته العقلية غير السويّة، لكنّ حياته بعد ذلك قد انقلبت بالمُطلق، حيث قرّر الاختفاء عن المشهد الفكري في فرنسا، مؤاثراً العُزلة، ليقتصرَ إنتاجُه على كتابات متفرّقة، في محاولةٍ منه للنجاة من ذلك الكابوس. ومن بين تلك الأوراق التي وقّعها في آخر حياته، هذه السيرة التي نُشرت بعد موته بسنوات.