على مدار مئات السنين، امتزج الفنّ بالحِرفة في التاريخ الإسلامي، إذ مثّلت معظم التعبيرات الحروفية والمنمنمات والأرابيسك والعمارة رؤيةً فلسفية تتعلّق بالنظرة إلى الكون والخلق، انعكست في أبعاد جمالية تحكمها بُنية ونسق محدّدان، وهي مقاربة تجسّدها تجربة يحيى عبده كما يبرزها معرض "ملامح من المشوار" الذي افتُتح في "غاليري ضي" بالقاهرة بداية إبريل/ نيسان الجاري، ويتواصل حتى الثالث من مايو/ أيار المقبل.
يوظّف الفنان التشكيلي المصري (1950) الكتابات العربية، من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومأثورات شعبية وزخارف نباتية وهندسية، في تشكيل عباراتٍ يختارها، مثل "وإنّ الله الرزّاق ذو القوّة المتين"، أو "سبحان الله"، أو "استوصوا بالنساء خيراً"، أو "الفتح"، ويسعى إلى إدماجها كمفردات تشكيلية داخل اللوحة، من خلال إبراز التباين اللوني بين الغوامق والفواتح، أو في تداخل مساحات الظلّ والنور وفق علاقات متوازنة ومدروسة.
تعود بدايات عبده في هذا الاتجاه إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مع رحلته الأولى لأداء مناسك الحجّ والعمرة، حين قرّر أن يحوّل مشهد الطواف والسعي بين الصفا والمروة وغيرها من المناسك إلى أيقونات فنية، وواكب ذلك بتنظيرٍ أراد من خلاله تأصيل التصوّرات الفلسفية والفكرية للفنون عبر التاريخ الإسلامي، وصولاً إلى اللحظة المعاصرة.
يسعى إلى تأصيل التصوّرات الفكرية للفنّ عبر التاريخ الإسلامي
تُرجمت هذه الأفكار عبر استعارة الأنماط الزخرفية الهرمية والمثلّثة وسواهما منذ ما يقارب الألف عام، مع استخدام الموتيفات الإسلامية المعروفة، مثل القبّة والدائرة والأهلّة والنجوم، وتجتمع هذه العناصر، بالإضافة إلى الخطّ العربي، في أسلوب تعبيري تجريدي قادر على إيصال رسائل الفنّان مع الالتزام بجمالية اللون وتوزيع الكتلة والفراغ وتدرّجات الضوء في العمل الفني.
تتعدّد مصادر عبده بدءاً من دراسته الأكاديمية، حيث حاز درجة الماجستير في الرسوم المتحرّكة من كلّيّة الفنون الجميلة بـ"جامعة حلوان" عام 1984، ثم درجة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1988 عن أطروحته "رؤية فنّيّة معاصرة لكتاب كليلة ودمنة"، ومروراً بممارسته تصميم الأغلفة والكتب وكتب الأطفال المصوّرة، وانتهاءً بامتهانه الرسم خلال عمله الصحافي.
الرمز حاضرٌ أيضاً في بعض اللوحات المعروضة التي تتناول ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، والتي تقترب من تصميم الملصقات، إذ يبني علاقة بين الزهور باعتبارها رمز إرادة الشعب والحياة، مقابل الصخور التي تتحطّم، كنايةً عن التغيير، أو الحَمَام الذي يعبّر عن سلمية الاحتجاجات الشعبية مقابل الغربان التي تشير إلى غدر أزلام السلطة.
وفي عمل آخر، يحضر الدرب الذي يسير عليه الشعب، عمّالاً وفلّاحين ونساء وأطفالاً، بجوار الخضرة التي زرعوها والعمائر التي شيّدوها، أو في لوحة ثانية يتداخل فيها وجه الفلاح وجسده بجسد المرأة المصرية ويدهما تمسك المعول وهما فوق البيوت، إلى جانب أعمال تتشكّل فيها المناظر الطبيعية مع الحروفيات.