عندما شاهدتُ فيلم "سينما براديسو"، وجدتُ تشابهاً بين شهرزاد عامودا وبراديسو صقلية، سينمائياً في بعض السمات. وتمنيتُ لو أني كتبتُ السيناريو (مع فيلم إيطالي آخر اسمه مالينا).
"سينما براديسو" فيلم إيطالي أنتج عام 1988 ، كتبه وأخرجه جوزيبي تورناتوري. تروي أحداثه ولع سلفاتوري بالسينما الذي يتذكّر مسقط رأسه في صقلية بعد أن تصله مكالمة من هناك. الفيلم يصوّر صحبة سالفاتوري الطفل، أو توتو، ومشغّل أفلامٍ عجوزٍ في دار السينما الوحيدة في القرية.
الغريب أن "سينما باراديسو" احترقت للسبب نفسه الذي احترقت لأجله "سينما شهرزاد" في عامودا، فالأفلام كانت قابلة للحرق.
في الفيلم أصيب مدير بكرة الأفلام بالعمى، كذلك أصيب برو، وهو مدير بكرة أفلام وأحلام في عامودا، بالعمى تقريباً.
جاري في الحي، برو، خطاط ورسام أيضاً، كان يقلّد ملصقات الأفلام التي ترد بالقطارة رسماً من أجل الدعاية والترويج للفيلم على زوايا البلدة الرئيسة، وعلى عربة بعجلتين يجرها فارس من فرسان الدعاية يجوب بها شارعي البلدة الرئيسيين.
مختصر الواقعة أن فيلماً عرض في عامودا (13/ 11/ 1960) اسمه "جريمة في منتصف الليل" من بطولة فريد شوقي وزهرة العلا. استنفرت البلدية المدارس بتلاميذها على حضوره خفافاً، والجميع ظنّوا الحضور إلزامياً أو وجدوها فرصة للتعرف على شهرزاد الصورة.
ريع الفيلم سيذهب إلى بلد المليون شهيد، ترنحت مقاعد "سينما شهرزاد" الخشب ذات السقف الطيني المعزول بالقش تحت التلاميذ الخفاف، كلُّ مقعدٍ لطفلين؛ عدد المقاعد 200 والحضور ضعفه وقد احترقت السينما بسبب إجهاد المحرك الذي وثّق الموثقون نوعه، والبلد الذي صنع عفاريته، والزيت الذي جرى في أوردته وعدد سعلاته، وعطساته.
أما عدد الضحايا فبلغ المائتين، أقل أو أكثر بينهم 25 طفلاً عربياً. الضحايا كانوا من جميع الأعراق ماردينية، محَلَّمِيّة، خاتونية.. وموزعين بالتناسب العددي مع تمثيلهم سكانياً.
والأكراد - أبناء جلدة كاتب هذه السطور- بغريزة الألم، وإدمان البكاء والشكوى، والاسترابة من مؤامرة، يتناولون الحادث في كل ذكرى (تحل ذكراها الرابعة والخمسون هذه السنة) ويندبون الضحايا بكلمات محفوظة، مألوفة، رومانسية، ربما خشبية (أطفال في عمر الزهور، هيهات، هيروشيما عامودا، هولوكست عامودا، عن بكرة أبيها، عامودا الوادعة طبعاً).
ويحاول بعض النشطاء استثمارها سياسياً، أما الحقيقة، فسبب الحريق هو الإهمال. وقد اجتمع أحد عشر حزباً وحاكموا ثم حكموا ونطقوا الحكم: قضاء وقدر. فلم يكن "حزب البعث" وقتها قد تسنّم الحكم، ولم تكن القومية العربية بذلك الجموح، ولا عداء لعبد الناصر مع الأكراد، والجريدة الوحيدة التي غطت الخبر هي "المصوّر" المصرية.
تم تناول الذكرى في كثير من المقالات والقصص الفوتوغرافية التي تكرر المعاني نفسها، وقد كتب الشاعر سليم بركات عن حريق السينما (أو محرقتها كما يفضّل النشطاء) فصلاً في "سيرة الصبا" هو من أفضل ما كتب عنها. ولم أسمع عن أفلام وثائقية، أو معرض شامل يتجاوز صور الضحايا، أو آثار الضحايا، أو جمع قصص فنية، أو دعوة أدباء من جزائر، أو أعلام جزائريين.
وكان المحامي حسن دريعي قد كتب كتاباً وثّق فيه الحدث، ثم تبنى مع بعض الناشطين تسمية الحديقة التي خلّفها الحريق، بـ"حديقة الشهداء" (ألف متر مربع) مع أنه تحصيل حاصل. وقد استغلوا أحداث الثورة وعلّقوا الشاخصة على باب الحديقة التي لو علقت قبل الثورة لأرعدت لها أنوف.
لم يقترح ناشط مثلاً تسمية الشوارع على أسماء الشهداء الضحايا. لم يذهب تلفزيون من تلفزيونات الكرد الثلاثين إلى منزل مشغّل الأفلام برو، فهو شاهد على عصر.
وفي الحديقة نصب تذكاري نحته الفنان محمود جلال لثلاثة أطفال يحملون العلم الجزائري تعانقهم النيران.
من حماقات الصبا أني رفعت كتاباً في سنة 1976، متطوعاً، ربما متهوراً، إلى رئاسة البلدية، دبّجته بإتقان طالب ثانوي و"نفاق"، بعد أن أسبغت على رئيس البلدية الصفات الحميدة ونعته بصاحب اليد البيضاء (وأشك في ذلك أكثر من ديكارت) مذكّراً رئيسها بضرورة العناية بحديقة عامودا الوحيدة والمغلقة.
رميت الكتاب/الرسالة في الصندوق، الذي لا بدّ أنه جفل من الكتاب الوحيد الذي سقط في جوفه الفارغ منذ أن صلبوه على حائط البلدية.
والغريب أن رئيس البلدية استجاب لورقتي! فأرسل من يحلق شعر الحديقة ويسقي أشجارها الظمأى لكنها.. بقيت مغلقة الباب.
اسم السينما كان شهرزاد (ألف ليلة وليلة) التي أراد لها مسمّوها أن تروي بالصور للشعب ما كانت ترويه بالكلمات لشهريار الملك، فلكل عصر شهرزاد.
أعتقد أنّ سكان عامودا يعانون بمعظمهم من متلازمة الخوف من ظلام السينما، فأنا غالباً ما أجلس بجانب الباب أو "منفذ النجاة" (هكذا هو اسمه العربي في الصالات التي يبدو أن كثيراً منها تعرض إلى الحرق)، ما إن تنقطع الكهرباء حتى أرمي بنفسي في الضوء. السينما الصيفية مكشوفة السقف، وهي أكثر رحمة من السينما الشتوية المغلقة.
كانت أجاثا كريستي قد مرت قبل سنوات في البلدة، وتناولت بعض البطيخ، ولو سمعت بالحريق لدسّته في إحدى قصصها، وأرضت خيال نشطاء المؤامرة "الحاقدة"، الذين يحبون التجارة السياسة بها. اسم الفيلم يذكي خيال النشطاء.
الأطفال ذهبوا إلى فراديس الجنة، التحقوا بشهداء ثورة المليون شهيد، فهم لم يكونوا من عشاق السينما، ووجد ذووهم الفيلم، ذريعة للتضامن مع ضحايا الجزائر، وربما لولاهم لما كان في عامودا حديقة. هي الوحيدة اليوم في عامودا، ولا تزال أشجارها خضراء بسماد أرواح الضحايا.
مقارنة غير أخيرة بين عامودا المحافِظَة وصقلية المُتَديِّنة؛ عامودا لم يكن لها كهنة يحذفون القبلات من الأفلام التي بنى من فكرتها جوزيبي تورناتوري خاتمة فيلمه.
ختاماً، من تقادير الزمان، أنّ رئيس البلدية صار غريماً خصيماً لي، أنا الصبي الذي رمى إليه بعريضة الاستعطاف في صندوق الشكاوى، فقد شاركني حب معلمتي، مالينا الشامية الحسناء (مالينا حسناء مهجورة شبه أرملة في "مالرمو" يقع في حبها صبي وشعبٌ كامل). ثم سافرت المعلمة، وخسرتُ في الحبّ والحرب، وفاز خصيمي برئاسة البلدية، وبقيت الحديقة مهجورة.. إلى أن زارتنا الثورة السورية.
* كاتب من سوريا