وفقاً لذلك، لن نستغرب أن يُكتب للطفل الذي ولد في بني سويف بداية الحرب العالمية الأولى، وترعرع مع أمّه في حيّ بولاق الشعبيّ في الظروف الاقتصادية والاجتماعية العاصفة التي طاولت مصر، بعيداً عن والده العمدة الذي هجر عائلته، أن يكون واحداً من أهمّ روّاد الواقعيّة في السينما المصرية، مستحضراً الحيّ المصري في معظم كادرات أفلامه.
أبو سيف، صاحب الميول الاشتراكيّة، والذي درس التجارة في ثلاثينيات القرن الماضي، وعمل في مصنع للنسيج في مدينة المحلّة، طرق أبواب الصحافة الفنية لشغفه الشديد بالفن السابع منذ طفولته، واستطاع أن ينتقل بعد محاولاته الدؤوبة إلى العمل في قسم المونتاج في "استوديو مصر" عند افتتاحه.
وكانت شرارة الواقعية الأولى في مسيرته حين عمل مساعد مخرج في فيلم "العزيمة" (1937) لكمال سليم، الأب الروحي لهذا التيّار، والذي كان من أكثر الشخصيات الفنية تأثيراً في حياة صاحب "بداية ونهاية".
بعد دراسته المونتاج في باريس، بفضل منحة "استوديو مصر"، وإخراجه ما يزيد على ستّة أفلام منذ أواسط الأربعينيات، شرع في التقدّم في مسار الواقعيّة الفنيّة كخطّ أساسيّ ذي ملامح خاصّة في مرحلة الخمسينيات من خلال أفلام اتخذت الحارة الشعبيّة مكاناً محورياً تدور به الأحداث، في أفلام من قبيل "الأسطى حسن"، و"شباب أمرأة" و"الفتوّة" و"ريا وسكينة".
أعمال صُنّفت على أنها واقعية باعتبار مضمونها وللجوّ الشعبي العام فيها، ومواقع التصوير التي تمرّدت على سينما القصور. لكنّها أعمال ظلت بعيدة عن المميّزات التقنيّة والفنية للواقعية السينمائيّة التي عرّفها المُنظر السينمائي الفرنسي أندريه بازان في تلك الفترة على أنّها تدور في أماكن حقيقيّة، يقلّ تدخّل المونتاج فيها ولا تتّخذ نجوم السينما أبطالاً لها.
لم تخلُ الأفلام الآنفة الذكر، رغم التجديد الذي أحدثته على السينما العربيّة، من الميلودراميّة والمباشراتية في التوجّه الذي يميل في خطابه إلى العظة الاجتماعية والدعوة الصريحة للاشتراكيّة أحياناً، وفي أحيان أخرى ظهرت عليها النزعة التجارية من خلال إقحام الأغاني.
لعل شريط "بين السماء والأرض" (1957) أبرز ما يمكن أن نتذكره من هذه المرحلة، وهو شريط تدور معظم أحداثه داخل مصعد كهربائي يجمع ما يزيد على عشرة أشخاص، كلّ منهم يمرّ خلال هذا الحادث الاعتباطيّ بسيرورة تغيّر في شخصيته، ضمن إطار كوميديّ تشويقيّ، يقترب بأجوائه من تيار الواقعية الإيطالية أو الموجة الجديدة التي شهدتها فرنسا.
راهنت سينما أبو سيف وهي تطلب الواقعية على الالتحام بموضوعات تجمع بين الاجتماعيّ والسياسيّ في نظرة موحدة للواقع، وهو ما لم يخضه سوى قلّة من المخرجين. ويصلح، بوصول أبو سيف إلى أوج صنعته الفنية، تقسيم هذه المرحلة إلى مرحلتين: مرحلة ناصريّة، وأخرى ما بعد النكسة، والتي حافظ بعدها على وتيرة عالية من الإتقان حتى وفاته.
في المرحلة الناصرية، قدّم أبو سيف شريطين مباشرين في توجّههما الداعم لثورة يوليو، ربط أحدهما بالمحور النسويّ من خلال رواية "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس، والتي كتب لها السيناريو رفيق دربه نجيب محفوظ، وهي رواية تتمرّد فيها البطلة على عادات مجتمع "العهد البائد" وتنال حريّتها واستقلالها مع حلول ثورة يوليو. استعان "رائد الواقعيّة المصريّة" بأدوات التعبيرية السينمائية في مشهد الحوار الداخلي للبطلة في أحلامها حين تقف وراء ظلّها العملاق للدلالة على صراعها مع ذاتها.
وفي شريط "القاهرة 30" (1966)، المأخوذ عن رواية "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، والذي اشترطت الرقابة على المصنّفات الفنيّة أن يُعدّل اسم الشريط على هذا النحو، عرض أبو سيف الفساد الاجتماعي في العهد الملكيّ من خلال شخصيّتين/ضحيّتين إحسان (سعاد حسني) ومحجوب عبد الدايم (حمدي أحمد) اللذين باعا شرفهما كلّ بطريقته هروباً من الفقر، مستغلّاً الوسائل الرمزية في أكثر الصور رسوخاً من الشريط متمثّلة بعبد الدايم، الذي ارتضى أن يقاسمه رجل ثريّ زوجته، وهو يجلس ومن خلفه قرنان معلّقان على الحائط.
أمّا بعد النكسة، فما كان من المخرج يساريّ التوجّه إلّا أن ينتقد الأجهزة الإدارية والسلطة على عدّة مستويات منها الرمزيّ كشريطه المهمّ "الزوجة الثانية" (1968) الذي كرّس فيه كرهه للعمدة الانتهازيّ في إشارة مزدوجة إلى السلطة الحاكمة والمستعبدة لسكّان القرية من جهة، وإلى والده العمدة الذي هجره في طفولته، مقدّماً الحوار باللهجة الريفيّة المغيّبة عن السينما المصريّة، ومستعيناً بالموسيقيّ فؤاد الظاهري ليُخرج الفيلم بنفحة القصص الشعبية، وكان هذا التوجّه واضحاً في المقدّمة الكرتونيّة المتميّزة للشريط الذي ينتصر لـ "الغلابة" ضدّ العمدة.
وفي خطوة اعتبرت الأكثر جرأة في مسيرته، قدّم أبو سيف شريطاً "ما بعد نكسويّ" بامتياز، هو "حمام الملاطيلي" (1972). أثار العمل جدلاً كبيراً حين خرج إلى الصالات، لشدّة جرأته في كشف عقم المجتمع المصري والفساد المستشري فيه، من خلال التطرّق إلى التسيّب الإداري والرشاوي في الدوائر الحكومية، ومشكلتي الفقر والكبت الجنسيّ، وصولاً إلى التطرّق إلى المثليّة الجنسية؛ ليقول إنّ الهزيمة كانت في الداخل قبل أن تكون في ميدان القتال مع عدوّ خارجيّ.
ومع اقترابه من سنواته الأخيرة، جنح صاحب "المواطن مصري" إلى تطعيم الواقعيّة بالفانتازيا كما في شريط "البداية" (1987) (تأليف الكاتب لينين الرملي)، حين وضع اثني عشر نموذجاً لمواطنين مصريين، بين يساريّ ورأسمالي وفلاح وراقصة وباحثة علمية. استعرض من خلال هذا الطيف العلاقة بين السلطة الرأسماليّة ومنافقيها، وبين اليسار والشعب "الغلبان"، في واحة صغيرة كانت بمثابة عالم مصغر، كشف ديناميّة علاقات القوة بين الدولة والمواطنين، وأتاح له كشف طرق السلطة في الإخضاع بين تحريض على العلمانية تارة، ودغدغة الفطرة الدينية للشعب في مناسبات أخرى.
يبدو الفيلم، بعيون مُشاهد اليوم، وكأنه يخاطب الواقع الحالي في مصر، حيث تهكم أبو سيف ضمن خطاب شخصية أداها أحمد زكي على قدرة التلفزيون في تغيير الجلد ومجاملة السلطة متجسّدة في شخصية "نبيه بيه" (جميل راتب). فعل ذلك بخفة ظلّ شبابيّة، وكان قد تخطى حينها عقده السبعين، مؤكّداً قدرته على أن يتجدّد سينمائياً في كل فيلم يخرجه.