أن تملك أو لا تملك، تلك ليست المسألة في قصة تيسير السبول القصيرة "صياح الديك"، حتى وإن كانت قماشة حيكت عليها المشاهد الأربعة الأساسية فيها. لكن السؤال/الصفعة في القصة هو: كيف تحدث الحرية أو كيف تقع الحرية كحادثة، كيف يفهمها السجين وتكتشفها غادة؛ الرجل/المرأة، بل كيف تكون الرغبة سبباً في الشعور باغتراب الذات.
يا للمصادفات، ذكرتُ السبول (1939-1973) أكثر من مرة خلال الأسبوع الماضي، وتنبّهت أن ذكرى انتحاره مرّت في 15 تشرين الثاني/نوفمبر، وكلما ظهر تحضر بقوة قصته "صياح الديك"، وتتوارى روايته "أنت منذ اليوم" وكذلك قصة "هندي أحمر" وأشعاره التي لا أذكر منها سطراً.
يفتتح السبول القصّة بإطلاق سراح "السجين" في وقت متأخر من النهار، نراه وعلى كتفه حقيبة قماشية فارغة تحف بفخذه، فيسأل نفسه لم يحملها؟ لن نعرف اسم السجين طيلة القصة، نعرف اسم صديقه عثمان الذي سيأتي لاصطحابه من السجن، وغادة زوجة صديقه، أما هو فيشار إليه دائماً بصفته السجين.
نحن أمام أربعة مشاهد استعارت الكثير من أدوات الكتابة المسرحية، حتى يغدو من الممكن تخيّل القصة على الخشبة لدى قراءتها؛ الأول خروج السجين وركوبه السيارة بجانب صديقه في الطريق إلى البيت، الثاني مشهد اجتماع السجين وعثمان وغادة والديك المشوي (عنصر أساسي في العمل) على العشاء، والثالث مشاهد الكوابيس الرائعة، إن كان يمكن أن توصف الكوابيس بذلك، والأخير هو المشهد الختامي المفتاحي بين غادة والسجين.
السجين رجل "مبلبل يصعب عليه أن يطمئنّ لأفكاره"، أقلقه العالم الذي خرج إليه في وقت غير مناسب؛ آخر النهار، وهو حانق ويريد أن "ينفرد بنفسه ليناقش بلبلته".
يرى صديقه كما لو أنه يراه لأول مرة، إنه أقصر مما تخيّل وحاجباه أكثف مما يتذكر، موظف في شركة تأمين، ولديه ابن اسمه مقبل، ويرفض أن تُرضع زوجته الوليد، لأنه يريد أن يستأثر بحليبها، يظهر مقبل فجأة رضيعاً نحيلاً وشاحباً، فيهمس السجين لنفسه "ما الذي أنجب هذان الزوجان؟" ويقول بصوت عالٍ "ملامح والده مائة بالمائة"؛ محاولة انسجام مع النفاق، فلا بد أن يمتدح طفل الرجل الذي يؤويه.
المرأة في قصة السبول هي مكياج وثياب وشعر وفستان، فخورة بالديك المشوي الذي "مرمغت" (التعبير للسبول) رأسه في المعكرونه، هذه هي أدواتها التي تجيد استخدامها - ربما لن نقرأ وصف الفستان بالبئر إلا عند السبول: "منبت كتفها يصب مرة واحدة في بئر فستانها الأسود" - إنها شابة تتكلم من دون جهد، بينما السجين المأزوم المتردّد، يصارع كل كلمة قبل أن ينطقها، "يا لها من مفارقة بين ابتسامتها المشهرة وهذا الرجل الذي لن ينازل أحداً أبداً"، تضحك ولا يحب ضحكتها، يشرب قهوته ببلادة وهي تتمشى ببيجامتها براحة، يعجز عن الكلام، وهذا العجز هو نتاج الاغتراب الذي سنفهم لاحقاً أنه ليس إلا نتاجاً للرغبة؛ السجين عاجز عن أن يفعل شيئاً باللغة لأنه عاجز عن تلبية الرغبة، لكنه لا يستطيع أيضاً أن يقف مكتوف اليدين إزاءها، متظاهراً بأنها لا شيء.
غادة وعثمان يملكان كل شيء مادي، كل شيء هش قابل للزوال والاختفاء؛ البيت الأثاث العمل المظهر الاجتماعي المال والديك المشوي والملابس التي يعيرونه إياها والتي يلبسها "فتتركه وحيداً في الداخل". وهو لا يملك سوى كوابيسه وتفكيره المستمر والمتعرّج بالحرية (التي تظهر كرغبة وكابوس الليلة الأولى خارج السجن). تنقر على الأثاث فيصدر صوتاً بينما "تنقر خده بإصبعين فلا يصدر خده صوتاً"، يفكّر السجين وهو يقارن نفسه بالأثاث.
وهو هنا لا يختلف كثيراً عن غادة، التي تضع نفسها في مقام واحد مع حقيبة السجين القماشية الفارغة التي فتشتها خلسة؛ ها هي تلومه بعد أن حاول تقبيلها: "لقد حاولت تقبيل زوجة عثمان"، وتقول له واحدة بواحدة، أنا فتشت حقيبتك دون علمك، وأنت حاولت تقبيل زوجة صديقك.
بالنسبة إلى السجين، هو لم يحاول تقبيل زوجة عثمان، بل تقبيل غادة. هو يراها كذات منفصلة بينما هي عاجزة عن رؤية نفسها هكذا، وتبدو كما لو كانت تحفظ فقط دور "زوجة عثمان" وتريد أن تمثله على أكمل وجه.
شخصيتان كل منهما يقارن نفسه بشيء مادي لا قيمة له، شعور لا يتلاشى فلا تظهر حقيقة المرأة ولا يفهم السجين حريّته إلا مع المقطع الأخير من المشهد الختامي، الذي للأسف جاء، من حيث اللغة، متأخراً عن لغة القصة ككل، لكنه حمل النهاية التي نريدها جميعاً، المساواة والشغف والحرية والأجساد الطليقة والتخلص من الأدوار الاجتماعية (الاغترابية إن جاز التعبير)؛ حيث يتحد السجين بالمرأة، كما لو أنهما "فلقتي حبة قمح".