لا أفتأ أتذكّر نبراتِه الكائدة تنبعث من وراء المصدح، يخاطب حشود الطلاب وقد أصاخوا جميعاً، إلى تحليلاته البنيوية يلاحق "كلاب نجيب محفوظ ولصوصه"، وينثر على مسامع الحضور من أفانين التأويل، يذيب بها معدنَ الإنشائية وحلقاتها.
وأتذكر عيونَه الخُضر تلقي نظراتٍ ثاقبة، ينفذ بها إلى خبايا نُظُمِ النصوص وقد تَصوَّنت، فَيُجليها عرائسَ تسير على استحياء. وما تزال ترنيماته تملأ المَدْرَجَ حين يتلاعب بسجلات الكلام، فيُدمج في خطابه مفرداتٍ للتحليل الهيكلي، يَظنها بعضهم من عاميِّ الدارجة، فإذا بها تَتَخايل في فصاحتها مع صواحباتها العالِمَة، لِيُسَلِّطها جميعاً على ما استعصى من أبنية القصص والقصائد، ويهزهز فيها مفاتن الجمالية.
وأتذكر، وأتذكر... في حرقة الطالب النائي، وقد غادرنا، من يَومَيْن، أستاذنا توفيق بكار (1927 - 2017)، ذاك الذي تملّك ناصية النقد الأدبي، واشتهر ملهمَ أجيالٍ عديدة من الأساتذة والطلاب والروائيين، وهو من مؤسسي جامعتهم، التي صاروا بها يفخرون.
اختط طريقه الوعر في تحديث التدريس الجامعي في تونس، على أنقاض النهج الزيتوني، وبنفس التصميم والثبات اختط عصرنةَ طرائق النقد الأدبي، يسلّط مفاهيمه على كبريات النصوص، فتتهادى في رواءٍ.
وظل، طيلة عقود النصف الثاني من القرن العشرين، حين تعاقبت ثورات المنهج وتتالت مدارس الألسنية والشعرية والأسلوبية، يُجري أحدث القراءات للنصوص الشعرية والروائية وفقَ أرقى ما توصّل إليه العقل النقدي في زَمانه. واحتل بذلكَ مكانة عليا في نقد الكلام بعد أن صَهَرَ علمَ النقد والأدب في ذوبٍ واحدٍ، فلا تمايزَ بين جمالية النص المقروء ونصّه القارئ، إذ صاغ على "المختارات" قراءاتٍ ومقدماتٍ لا تقلُّ عنها جمالية ً وعمقاً.
تفوَّق بكار على معاصريه باطِّلاعه العميق على مناهج الدراسات النقدية الحديثة، وخاصة الفرنسية منها، واستوعبَ مفاهيمها، وأكمل بناءَها في تطبيقاته البنيوية والشعرية، يحادث بها أشهر وجوهها رولان بارت (1915 - 1980) الذي كان أستاذه، وكذلك أرباب الشكلانية الروسية، وسائر كتّاب التحليل النفساني والاجتماعي.
يوظف مفاهيم الإنشائية وأدواتها، دونما إسقاطٍ ولا تعسّفٍ، استجلاء لقيم الجمال في الآثار الكبرى، ويُعَدُّ بذلك أول من عرَّب مناهج النقد الغربية وأول من تألق في مُناظرتها مع نصوص العرب، وقد يُبيّن حدودَها وتقصيرها حين تغدو للجمالية مَحبساً. ومن اقتداره أنه التزم تقويم تلك المناهج والإبانة عن حيفها حين تُسلط على ما أنتجه العرب، وكان لا يقبلها إلا إن جَلَّت في النص مكمن نباهةٍ أو آيةَ فرادةٍ. فردَّ على أعتى المناهج، بحكمته الشرقية، وقد سمعته، في إحدى المحاضرات، يعلق على نظرية قتل الأب في التحليل النفسي الفرويدي: "اقْتُلْه يُصبح حيّاً"، رفضاً لتعليل الجمالية بِعُقد الطفولة.
وعلى يديه تَحوّل النقد إلى كتابة جمالية عن الكتابة، يمتح من عيون الأدب، وتصير جُمَله في مثل قِطَع الشعر، تَعجب من عَراقتها، وتَطرب لفصاحتها: أسلوب راقٍ مُعَتَّق يرتقي إلى أعلى الآفاق حداثةً وجرأة في تناول القضايا الفكرية والاجتماعية الراهنة، حين يوجِد بين الدوال ومدلولاتها من العلاقات ما لا يُتَوَقَّع. وقد أسّس لذلك سلسلة "عيون المعاصرة" ينشر فيها أهم النصوص الروائية الحديثة، مثل: "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و"موعد النار" لفؤاد التكرلي، و"من أساطير الصحراء" لإبراهيم الكوني و"المتشائل" لإميل حبيبي، وكتب المسعدي "السد" و"حدث أبو هريرة قال"، ورائعة الهادي السلمي: "من لَحْمٍ ومن مَعدنٍ"... بالإضافة إلى تحليل "المقامة المضيرية"، أو جدلية الذهب والأدب، والغوص في متاهات "صلوات في هيكل الحب" لشاعر الخضراء الشابي، و"دراسة عن شعر فلسطين: "شعر العلامات أو فلسطين في نظمٍ وخطٍّ ورسم".
وقد ازدانت حياته الطويلة بالنشاط الدؤوب ترجمةً ونشراً وتدريساً ومحاضرات يجوس خلال الجامعات العربية والأجنبية، ينشر أدباً وفناً إلى جانب إشرافه على الأطاريح، وتحديث التدريس الجامعي وربطه بالثقافات العالمية، في عشقٍ للعربية لا يتناهى، ويؤثر عنه أنه قال خلال آخر تكريمه: "أوصيكم بالعربية خيراً". ولذلك حيكت عن الرجل، في أوساط طلبته ومحبيه، ما يشبه الأساطير، تحيطه بهالة من التبجيل، ومنها أنه لم يتَحَصَّل على شهادة الدكتوراه امتناعاً عن مواصلتها مع أحدٍ غير أستاذه وصديقه رولان بارت قائلاً: "لا أحد يمكنه تأطيري بعده".
وما أزال أذكر أساتذتنا يتنادونَ استبشاراً حين يصدر "تقديماً" جديداً فيَعلقونَه، ويستنسخونه بفرحة الصغار، ثم يطالعونه فيعلوهم ذهول الكبار، فيَعجَبون من اقتدار هذا الناقد الصناع، كيف تتدافع تحت قلمه درر الإنشائية، تجلي جمالية "المختارات" ولا تتنازع مع مقولات الأقدمين.
توفيق بكار ركن الجامعة التونسية وقد انثلمَ، وما من أحد فيها إلا وقد تفنن في احتذاء أسلوبه، حتى لَيُرى في كل كلمة وحرفٍ، يتخَفَّى ويتجلّى مبتسماً شامخاً، يرنو إلى الحداثة، ويجسّدها. كُرِّمَ الرجل في حياته وما اشتكى قطُّ من زمانه، بل أذاب أيامه الطويلة في إنجاز مشاريعه التي لا تنقضي، وأعلاها تَعشُّق العربية، يذيب لطائفها تحت دخان سجائر "الروايال" التي لا تكاد تفارقه، فتعلو دوائر في السماء، وكان هو آخرَها حين غادر أول أمس "عالم الكون والفساد".