منذ أن أتاحت الحكومة التركية أرشيف السلطنة العثمانية للباحثين في ثمانينيات القرن الماضي، ظهرت ملايين الوثائق التي تؤرّخ لأكثر من أربعة قرون، وتكشف خلفيات أحداث بارزة وقعت خلالها وتحوّلات شهدتها البلدان المحكومة، ولا تزال التقديرات تشير إلى إمكانية فهم التغيّرات الاجتماعية في العالم العربي والعلاقة مع السلطة آنذاك، كما أن وثائق عديدة تساهم في تثبيت الحقوق العربية في فلسطين.
من أبرز تلك المصادر كانت المحاكم الشرعية في المدن الكبرى لبلاد الشام، والتي تعود وثائقها في الغالب إلى القرن السابع عشر، واشتملت على الأحكام في النزاعات ومحاضر الزواج والطلاق والميراث والإيجارات والبيوع، إضافة إلى القرارات والبلاغات الرسمية في دمشق وحلب وبيروت وصيدا وطرابلس، والمدينة الأخيرة كانت تتبعها مناطق واسعة في اللاذقية وطرطوس السوريّتين والبقاع اللبناني، كما يشير الدارسون.
في كتابه "سجلات المحكمة الشرعية: الحقبة العثمانية - المنهج والمصطلح" الصادر أخّيراً، عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يقف الباحث اللبناني، خالد زيادة، على تأثير النصوص التي درسها في جوانب متعدّدة في الحياة الاقتصادية والإدارية والعمرانية وعلاقة المدينة بأريافها.
يلفت في هذا العمل تأسيسه إلى منهج ومصطلحات من خلال البحث في الوثائق، وليس الذهاب إلى ما توافقت عليه مراجع سابقة، حيث أوضح المؤلف وجود اختلافات في محتواها عن تلك الوثائق التي كان يكتبها قناصل الدول الأجنبية في القرن التاسع عشر.
تعكس السجلات بشكل دقيق خطاب السلطة ورؤيتها في الحكم وسياساتها، إذ تحتوي المدوّنة الرسمية لتنظيم شؤون الناس والطوائف والمجتمع، والمراسلات في تراتبيتها بين موظفي الإدارة، وآليات الرقابة الحكومية وطبيعة عملها ومهامها، ويتضح إغفالها لاحتجاجات المواطنين أو انتقاداتهم، والتي وُصفت على الدوام بـ "أعمال شغب ولصوص".
ما يؤشّر على أهمية المحاكم في إدارة شؤون البلاد هو الصلاحيات الواسعة التي كانت تتمتّع بها محكمة طرابلس حين كانت المدينة تمثّل ولايةً مستقلّةً حتى ستينيات القرن التاسع عشر حين أُلحقت بولاية دمشق ثم عكا ثم بيروت، ما أدّى إلى تأخّر المدينة وتقلّص دور محكمتها الشرعية جراء ذلك.
يتضمّن الكتاب ثلاثة أقسام؛ الأول بعنوان "الصورة التقليدية للمجتمع المديني: قراءة منهجية في سجلات محكمة طرابلس الشرعية في القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر"، ويتبيّن خلاله شكل علاقات الإنتاج وسلطات المسؤولين وصلاتهم بأصحاب المال.
في القسم الثاني "دراسات في الوثائق الشرعية"، يسلّط زيادة الضوء على أهمية السجلات العثمانية في دراسة التراث المعماري للمدن، وتكوّن العائلات والتنوّع السكاني والعلاقة بين الطوائف، وتواجد الأوروبيين في الولاية. أما القسم الثالث "المصطلح الوثائقي في سجلات المحكمة الشرعية" فمنه نستشف أن هذا الكتاب لا يتعلق فقط بكتابة تاريخية، وإنما أيضاً بـ "الكشف عن سوسيولوجيا الحاضر".