قلّما جرى تناول العلاقة بين الشعري والتشكيلي في الثقافة العربية التي تبدو، اليوم، وقد أدارت ظهرها لما ظلّت تعتبره "ديوان العرب".
"الشعر والتشكيل" كان موضوع ندوة أُقيمت أوّل أمسٍ الخميس في "المعهد الوطني للفنون الجميلة" بمدينة تطوان المغربية؛ حيث توقّف باحثون ونقّاد مغاربة عند مختلف أشكال التحاور بينهما، عربياً وعالمياً، في النصوص الشعرية والتجارب التشكيلية القديمة والمعاصرة.
وبدا المشاركون في الندوة، التي نظّمتها وزارة الثقافة والاتصال المغربية و"دار الشعر" في تطوان، متّفقين على أن ربط الصلة بين الشعر والتشكيل/المروي والمرئي في التجارب الإبداعية العربية يمثّل انتصاراً لحداثة تحرّر الخطاب الشعري من أغلال النَّظْم ومن الطابع الصوتي في الثقافة العربية التقليدية، نحو أفق بصري معاصر.
يرى الباحث والناقد الفنّي، موليم العروسي، الذي استهلّ مداخلات الجلسة الصباحية من الندوة، أنَّ عصر الحداثة تميّز بوعي الإنسان بذاته كفرد مستقلّ عن القبيلة والسلطة السياسية والدين؛ فأصبح صانع الصور يتحدّث عن الخلق والإبداع، ولم تعُد هذه الصفة مقصورةً على القوى الغيبية التي تتجاوز مدارك الإنسان.
يُذكّر العروسي بالمقولات التي تربط الشعر في الثقافة العربية بقوىً خارقة خفية، لافتاً إلى أن صناعة الصور الشعرية تمرّ، بالضرورة، عبر الجسد، أي عبر الصورة، مُعتبراً أن التحوُّل الذي تبلور مع الحداثة لم يكن إلّا نوعاً من إعادة تفسير لتلك القوّة الخارقة؛ بحيث اعتُبرت نابعةً من داخل الإنسان وليست من خارجه.
يَعتبر المتحدّث أن بيت طرفة بن العبد الشهير، "لخولة أطلال ببرقة ثهمد/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد"، كان أوّلَ من انتبه إلى أهميّة التشكيل في القصيدة، مضيفاً أن الشعراء، وفي محاولاتهم تكثيف الصور والحدّ من "ثرثرة" اللغة العادية، شعروا بأهميّة الأثر وقوّته في التعبير، مستشهداً، في هذا السياق، برسومات الحلّاج في كتابه "الطواسين".
من جهته، استعرض الكاتب والناقد، يوسف وهبون، تاريخ العلاقة والأدوار المتبادلة بين الشعر والتشكيل، منذ مقولة هوراس "كما يكون الشعر يكون الرسم"، مروراً بالنقاش الذي شهده عصر النهضة حول الشعر والفن واعتبارهما وجهَين لعملة جمالية واحدة، وصولاً إلى تجارب الشعراء الرسّامين في العصر الحديث، كما توقّف عند التجارب المغربية التي جمعت بين شعراء وتشكيليين في أعمال مشتركة.
وتحدّث الناقد فؤاد البهلاوي، في ورقة بعنوان "الشعر والفن التشكيلي من الانسجام إلى الهجنة"، عن تجربة الفنّان التشكيلي حسن الشاعر، والذي اشتغل على قصائد لعبد اللطيف اللعبي، وقصائد لحسن وهبي، وُتوّجت هذه التجربة بإصدار كتابَين تقاطعت فيهما قصائد الشاعرين اللذين يكتبان بالفرنسية مع التجربة الفنية المعاصرة لحسن الشاعر.
وعرّج البهلاوي على المعرض التشكيلي الذي أقامه طلبة "المعهد الوطني للفنون الجميلة"، العام الماضي، ضمن فعاليات الدورة الثانية من "مهرجان الشعراء المغاربة"، الذي تنظّمه "دار الشعر"، وقد أشرف على المعرض حسن الشاعر أيضاً، كما أشرف على تأطير طلبة المعهد وهم يستلهمون قصائد ديوان "قارب إلى لِسبوس" للشاعر السوري نوري الجرّاح، في لوحات فنية معاصرة، خلال الأمسية الشعرية التي أقامها منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بمشاركة عازف العود إدريس الملومي.
وعن هذه التجربة، قدّم الناقد أحمد مجيدو مداخلةً حول ما أسماها "الجاذبية" التي تحكم علاقة الشعر والتشكيل، رغم اختلاف أدوات كلّ منهما؛ حيث يرى أن الجرّاح إنما يكتب قصيدة شعرية معاصرة، ما يمنحه قدرةَ الانفتاح على كل الأشكال الجمالية، ومنها تلك المتعلّقة بالفن المعاصر، فكان المعرض التشكيلي عن ديوانه تجربةً جديدة قدّمت الشعر تشكيلياً والتشكيل شعرياً.
أمّا الفنان التشكيلي، أحمد جاريد، الذي استهلّ الجلسة الثانية من الندوة، فيرى أن علاقة الشعر بالتشكيل والتشكيل بالشعر تشبه حالة الوقوف أمام المرآة؛ حيث يرى كلّ منهما نفسه في الآخر، ويجد فيه ضالته وجماليته الخاصة.
وتحدّث جاريد، الذي صمّم أغلفة كتب شعراء بارزين منذ السبعينيات، عن تجربته، مؤكّداً أنه لم يشعر يوماً بأن رسومه كانت تستدعي نصوص الشاعر لكي يصل إلى معناها، ولم يقصد شرح أو تأويل قصائدهم من خلال أعماله التشكيلية المصاحبة لدواوينهم، مضيفاً أن العلاقة بين الشعر والتشكيل هي علاقة "قدَرية"؛ حيث يستدعي كل فن الآخر ويستضيفه مثلما يحدث في كل علاقة أصيلة أو صداقة طويلة.
من جانبه، توقّف الناقد عميروش بنيونس عند التجربة الكاليغرافية التي رافقت جيل السبعينيات الشعري، مثل تخطيطات الفنّان أحمد جاريد في مجلّة "الثقافة الجديدة"، مروراً بتجربة المجموعات الشعرية والكتب الفنية؛ مثل ديوان "تفّاحة المثلث" الذي جمع عبد الله زريقة وعباس صلادي، و"كتاب الحب" الذي جمع بين محمد بنيس وضياء العزاوي.
بين الجلستَين، قدّم طلبة "المعهد الوطني للفنون الجميلة" أعمالهم التشكيلية التي استلهمت قصائد نوري الجرّاح، في عرض أدائي؛ حيث قاموا بمسرحة لوحاتهم، من خلال قراءة مقاطع من القصائد المفتوحة على الفجيعة والألم، والمنفتحة على الحلم والأمل في آن.