من بين أشهر هؤلاء، كما تذكر مقدمة الكتاب "رحلة الحاج المعاصر إلى مكة عام 1908"، (ترجمة: ريم بو زين الدين ومراجعة: أحمد إيبش)، جوزيف بيتس، وريتشارد بورتون (الحاج عبدالله)، وجون فراير كين (الحاج محمد أمين)، وقد كان الحاج علي الزنجباري، أو آرثر جون وافل، آخر أجنبي يشهد مناسك الحج حضورياً أواخر الحكم العثماني، الذي وصل إلى نهايته عام 1918.
الرحالة الأوروبيون كان لهم نصيب من زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة، من بينهم الإيطالي البولونييزي لودوفيكو دي فارتيما، الملقب بالحاج يونس المصري، والألماني أولريخ ياسبر زيتسن الملقب بالحاج موسى، والسويسري يوهان لودفيك بوركهارت الملقب بالحاج إبراهيم، والفرنسي جيل جريفيه كورتيلمون الملقب بالحاج عبدالغفار، وآخرون.
بطبيعة الحال، كما يوضح الكتاب، فإن غايات هؤلاء الرحالة كانت مختلفة، إذ لم يكن الحج على رأسها، كالتجسس والبحث عن الشهرة والمغامرة.
ويحصي الكتاب أن عدد الرحالة الأوروبيين الذين دخلوا المدينة المنورة ومكة المكرمة وعادوا ليكتبوا عنها قد بلغ 54 رحالة، منهم من أخلص لتجربته وأسلم فعلاً، وحسن إسلامه، كما هو الحال بالنسبة للحاج وليمسون وفيتاني، ومنهم من لم يسلم، لكنه عاد بنظرة إيجابية عن الإسلام والمسلمين وترجمها في كتابه. ويدخل ضمن هذه الزمرة الحاج علي الزنجباري، أو آرثر جون وافل.
موجز حياة
ولد آرثر جون وافل عام 1882، وهو من أسرة ضباط عسكريين، تخرج من الكلية الحربية وانضم إلى فصيل ويلز سنة 1900، شارك في الحملات العسكرية البريطانية في جنوب أفريقيا وهو دون التاسعة عشرة.
عين مسؤولاً عسكرياً في المستعمرات البريطانية في جنوب أفريقيا. ومر بكثير من التجارب الكبرى، وترك الخدمة العسكرية في 1906، وتفرغ للصيد في أدغال أفريقيا، ثم مارس التجارة هناك، وفجأة قرر الذهاب إلى مكة، وهي المغامرة التي سيقدم عليها، علماً أن الدخول إلى مكة والمدينة محصور على أبناء الديانة الإسلامية أو لمن أعلنوا إسلامهم، علاوة على أن العلاقات الإنكليزية العثمانية لم تكن في أحسن أحوالها، ومن هنا الوجه الآخر للمخاطرة.
اتخذ وافل لنفسه اسم علي الزنجباري، إذ كان قد تعلم اللغة السواحلية، أثناء إقامته في زنجبار. أبحر من مرفأ مارسيليا الفرنسي في 23 آب/ أغسطس من عام 1908، وكان برفقته شاب زنجباري اسمه مسعودي، وشاب آخر من حلب ترعرع في برلين يدعى عبدالواحد.
وأهمية هذه الرحلة أنها تسلّط الضوء على مرحلة مفصلية من تاريخ شبه الجزيرة العربية تحت الحكم العثماني، وبداية صراع بين الغرب والمشرق الإسلامي، سيكون له ما بعده. فغير بعيد من زمن هذه الرحلة ستقع الحرب العالمية الأولى، وسيجتاح الإنكليز والفرنسيون المشرق العربي بعد انتصارهم على الأتراك، تحت مظلة الانتداب.
صدرت الطبعة الأولى للكتاب بلندن في حياة المؤلف سنة 1913، وفي عام 1918 صدرت طبعة ثانية من الكتاب، بعد سنتين من وفاته.
سياق الرحلة
يكتب وافل موضحًا سياق رحلته "تحتوي الصفحات التالية على مدونة للرحلة، كتبتها بعد عودتي، ولم أكن أنوي نشرها. تظهر هذه المدونة أن الحجاز ليس بحال من الأحوال أرضاً متعذرة البلوغ كما نظن. وللتوضيح، أعرفكم أولا بمسعودي، وهو إفريقي من مومباسا تعمدت أخذه إلى إنكلترا ليساعدني في هذه المغامرة، وثانياً، عبدالواحد، عربي من حلب، ترعرع في برلين، وضممته إلى فرقتي لاحقاً.
اجتمع ثلاثتنا في مارسيليا يوم الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1908، وقد كان الحج ذلك العام يوافق الأول من مارس، لكن بما أني عقدت النية على التوجه أولا إلى المدينة المنورة لقضاء بعض الوقت في المدينتين، فلم يكن الوقت مبكراً. وكنت قررت أن أقضي وقتاً كافياً في دمشق لإقناع نفسي بأنني شرقي حقيقي، قبل دخول الأراضي المقدسة".
دوافع الرحلة
يكتب وافل عن الدوافع التي جعلته يقوم برحلته إلى الحج "إنه لمن الواجب تقديم الاعتذار في مقام كتاب من هذا النوع يبحث في جغرافية جزيرة العرب والأقوام الذين يتبعون أحد الأديان الأكثر انتشاراً في العالم، حيث إن حيثيات الاثنين تعتبر معرفة عامة، إنما، ومن خبرتي الخاصة، أعتبر أن الأمر ليس كذلك، وحيث إن فهماً عاماً لهذه المسائل ما برح ضرورياً لأي اهتمام قد تؤدي إليه هذه التجارب، فإني أفسح بعضاً من المجال هنا لإطلاع قرائي الذين لم يجدوا وقتاً لدراسة مواضيع تتعلق بالشرق".
ويضيف في تعليل أسباب قيامه برحلته "إن جهلنا بجزيرة العرب قد يعزى إلى ندرة الأدب المكتوب في هذا الموضوع، وخصوصاً في الأدب الإنكليزي. ولا تعد هذه الندرة مستغربة، فعندما ننظر في شخصية جزيرة العرب وسكانها، بالرغم من أن مساحة شبه الجزيرة تقارب مليوناً ونيفاً من الأميال المربعة، أي بمعنى آخر، بالرغم من أنها أكبر مساحة من الهند جنوباً، فإنها تحوي على خمس من المدن الداخلية الأكثر أهلية بتسمية مدينة. هذه المدن هي، بحسب أهميتها: مكة، المدنية، صنعاء، حائل، الرياض. أما حائل والرياض فإنهما تسميان مدينتين لأنهما عاصمتان للحاضرة، وبالإمكان تعداد الزائرين لهذه المدن بغير صعوبة.
ومن نافل القول أولاً قطع الشك بزيارة أي مسيحي مجاهر بمسيحيته لمكة أو المدينة المنورة منذ عصر النبي. إن الأوروبيين الذين دخلوا المدينة خلال مئات السنين الماضية لا يتعدون الاثني عشر، وأربعة منهم، بمن فيهم الكاتب، كانوا من الإنكليز. أما زائرو المدينة المنورة فإن عددهم أقل من ذلك".
ويشرح طريقة الدخول التي كانت متبعة من قبل هؤلاء الرحالة، يقول "إن المسافرين إلى تلك الأماكن قد قاموا برحلاتهم تحت غطاء إحدى طريقتين: الأولى إشهار إسلامهم علناً، والثانية بالتنكر. أما بالنسبة للطريقة الأولى، فإن عدداً من الغربيين الذين أشهروا إسلامهم قد قاموا برحلة الحج هذه دون شك، وعلى الأرجح أن العديد من الأوروبيين الملحقين في الخدمة في مصر، والذين ارتدوا عن المسيحية، وجدوا طريقهم إلى هناك في عهد احتلال محمد علي باشا للحجاز، إنما لم يسجل أي منهم تجربته تلك.
إن أول وصف دقيق لمكة مدون بلغة أوروبية هو للمدعو "علي باي"، إسباني الجنسية، في سنة 1807، أما الرحالة السويسري بوركهارت، الذي عد مسلماً حقيقياً من خلال إقامته الطويلة في الشرق، فقد ذهب إلى مكة في 1814 وترك لنا بياناً علمياً مفصلاً لرحلته. وتبع بروكهارت عام 1853 السيد ريتشارد بورتون، الذي قام بتلك الرحلة متنكراً بزي طبيب هندي، ومن ثم كين، إنكليزي آخر، عام 1877".
وهو يستنتج أن قلة الكتابات عن شبه الجزيرة العربية، وبالأخص الأماكن المقدسة، أمر مثير للاستغراب، على الرغم من القرب الجغرافي للمنطقة من أوروبا، قياساً إلى مناطق أخرى في العالم، يقول "بناء على ما سبق، يكون من غير المفهوم لما بقيت هذه الأماكن غير معروفة إلى العالم مع أنها وصفت، ووصفت جدياً من قبل الرحالين الغربيين من عدة جنسيات. إن جزيرة العرب، بالرغم من قربها من أوروبا، تعد نسيباً غير مكتشفة، حتى من وجهة نظر جغرافية، والقليل من الأخبار المتعلقة بما يحصل هناك، حتى في الأجزاء الأكثر تمدناً، تجد طريقها إلى الظهور في الصحافة الأوروبية".
يحاول وافل في سطور رحلته أن يرسم ملامح للعرب، أو بالأحرى لسكان شبه الجزيرة العربية، بالاعتماد على الدراسات المتداولة، وعلى بعض ما توفره إثنوغرافيا ذلك الوقت، وهي كانت متقدمة على كل حال، يقول "تعود العرب أن يتفاخروا بعدم خضوعهم لأي حكم خارجي.
مبدئياً، هذا الكلام صحيح، حيث إنه على الرغم من كون هذه المنطقة قد واجهت الكثير من الغزوات، فكل احتلال للمناطق الداخلية كان مؤقتاً. لقد أرسل الإمبراطور الروماني "أغسطس" حملة بقيادة غليوس غالوس تحت الاعتقاد الخاطئ بأن جزيرة العرب بلاد غنية تستحق الاستيلاء عليها. ولكن كل الذي قدر عليه غليوس غالوس كان برهنة العكس. إن اعتقاد الرومان الخاطئ يعزى إلى الثروات التي وصلت إلى الموانئ العربية من الشرق الأدنى، تحت الاعتقاد بأنها آتية من البلاد العربية نفسها. إن وصف القائد لهذه البلاد وسكانها بعد عودته لم يكن ليشجع أية مغامرة أخرى من هذا النوع".
جوازات مزوّرة
كان الرحالة البريطاني آرثر جون وافل على وعي تام بمخاطر الدخول إلى الأماكن المقدسة بالنسبة لغير المسلمين. لقد كان الأمر محرمًا تمامًا، يقول في مذكرات رحلته "إن المهمة الأولى الصعبة، كانت في كيفية الحصول على جوازات السفر الضرورية لنفسي ولمسعودي.
أما عبد الواحد فكان لديه جواز سفر، إنما يحتاج إلى تجديد. اعتمدنا بعض الإجراءات لتخطي هذه الصعوبة، وكانت النتيجة أنني حصلت على جواز سفر تركي باسم علي بن محمد، 25 عاما، مواطن من زنجبار وفي طريقه إلى مكة. وقعت هذه الوثيقة فيما بعد في أيدي السلطة التركية ونتجت عنها بعض المشاكل. كان لزاما عليّ القول إن الموظف الذي أصدر الوثيقة لم يكن على علم أني إنكليزي، وأن الرشوة لم يكن لها دور في هذه العملية عند الانتهاء من مسألة جوازات السفر بشكل مرض، كنا على استعداد تام لمغادرة مارسيليا بأسرع وقت ممكن.
إن الفندق الذي كنا ننزل فيه، مع أنه لم يكلفنا الكثير، ثلاثة فرنكات في اليوم، كان نتنًا. قضينا ظهر بعد ذلك اليوم بالتنقل بين مكاتب البواخر، آملين أن نجد مكانا في الدرجة الثانية في سفينة متجهة إلى مصر أو سورية. كان ذلك مستحيلا، حيث إن السفن كانت مزدحمة، وما توفر لنا فقط غرفة من الدرجة الأولى، أو مهجع من الدرجة الثالثة، ولم يناسبنا أيهما. ثم خطر لي التوجه إلى جنوا، حيث علمت أن هناك عددا من السفن، أقل شهرة من غيرها، تتوجه شرقا، وظننت أنه بإمكاننا تجنّب التعرف إلينا، في حين كان علينا قضاء بعض الوقت هناك". ....
حينما عقدت النية على ذلك، لم نضيّع وقتا في القيام بالإجراءات المناسبة، وغادرنا مارسيليا منتصف الليل، وصلنا جنوا عند الرابعة بعد ظهر اليوم الثاني، ووجدنا فندقاً رخيصاً لا بأس به في الطريق من المحطة، كان الاعتراض الوحيد عليه هو ضجة الشارع المستمرة التي تمنع الفرد من أن يسمع ما يقال له. خلال فترة بعد الظهر، قمنا بزيارة جميع مكاتب السفر البحري، إلى أن حصلنا على مهاجع لنا من الدرجة الثانية في سفينة "فاليرنو" بعد ثمانية أيام، إنما كانت هي السفينة الوحيدة المتوفرة.
الحاج علي الزنجباري
متنكراً في المدينة المنورة
يعتبر الكتاب غاية في الرشاقة، وسلاسة السرد، وهو يقدم صورة واضحة لا تغيب فيها ملامح عجائبية الرحالة الأوروبيين، ولا القدر المدروس من "ملح" المغامرات التي ينسبونها إليهم أو يجعلون "المصادفات" تسوقها أمامهم.
يقول الحاج علي الزنجباري (الاسم الذي تنكر به البريطاني وافل للدخول إلى الأماكن المقدسة): "يعد أهل المدينة المنورة، ما خلا الجيوش والحجاج، ثلاثين ألفاً، جميعهم تقريبا يمتهنون حرفا تمت بصلة إلى الحجيج ويعتاشون من وجودهم. إنهم يكدون ثلاثة أشهر في موسم الحج، ولا يفعلون شيئا آخر بقية السنة. وكل له مكانه في هذا النظام، فالطبقة الغنية تمتلك منازل تؤجرها بأسعار باهظة، والشباب يعملون مطوفين يؤجرون بكل كرم. أما التجار فتنمو تجارتهم، ويستفيد الجميع من الزائرين حتى الحمالون وسقاة الماء. لقد كان المطوفون مصدر إزعاج لي في دخول المدينة المنورة ومكة. وعملهم هو الاهتمام بكل حاج ميسور الحال يستطيع أن يشتري الرفاهية، فيهتمون به، ويرشدونه إلى المناطق المهمة، ويتلون له الأدعية والتحيات عند الأضرحة المختلفة. إن اللفظ مشتق من الطواف وهو أحد شعائر الحج: أي السير حول الكعبة في مكة. ليس هناك من ثمن محدد لهذه الخدمات، ويعتمد المبلغ على كرم وثراء كل فرد، وعادة ما يكون الحاج في قمة الكرم. ولذا فهناك منافسة قوية على كل زائر يبدو عليه الثراء، خصوصا إذا حمل أمتعة ومعه خدم. وجرت سابقا عند وصول هكذا زائرين مشادات انتهت بحمل السلاح، ولإيقاف هذه الممارسات الفاضحة، عينت الحكومة عددا معينا من المطوفين لكل بلد يستقبلون زوارهم. وكل مجموعة تعين شيخا يفصل في المشادات، وتصله شكاوى الحجاج إن وجدت. أثبتت هذه الطريقة نجاحا حيث إن المطوفين يؤثرون لغة وعادات البلد الخاصة التي عينوا لها وينعكس هذا على جعل الزيارة أكثر تثقيفا. إنما كانت تجربتنا صعبة. لم نسمع بهذه الإجراءات إلا حين اقتربنا من المحطة، وتوجست خيفة من هذا الأمر. ليس من المعقول أن نعمل مع مطوفي زنجبار حيث سألزم أن أختلط بكل زائر من الساحل الإفريقي، فأكون تحت خطر الاكتشاف من قبل أي شخص يعرفني في مومباسا، إن لم تكشفني اللغة. كان ضروريا اتخاذ قرار سريع لتفادي خطر هذا الأمر الطارئ. وبعد تداول سريع قررنا ما يلي: يدعي عبدالواحد أنه من بغداد، وأنا "درويش" عاش هناك بعض الوقت. وبما أن مسعودي أسود اللون، فهو عبد لي. والدرويش لقب يطلق على فرقة من المتعبدين منتشرين في مصر والسودان، وهو لقب يستعمل من طرف أشخاص لا يعترفون بهويتهم الحقيقية. وقد يكون هذا بسبب معتقداتهم السياسية، أو فرارا من مشاكل في بلادهم أو مشاكل النسب.(...) ..... مشهد غريب هذا، يقع في نفس الزائر الجديد. انتشر المصلون في أنحاء المكان، وهناك من يقرأ القرآن بنغمة رتيبة، متمايلا بطريقة مميزة ترافق دائما تلاوة القرآن. وتجمعت هنا وهناك حلقات الدرس حول علماء الدين، يستمعون إلى تلاوتهم أو شرحهم. والبعض الآخر يناقش بصوت خافت أموراً دينية أو أمورًا خاصة. يقف حول الضريح المسيج صفوف من الرجال، يتقدمها مطوفها ينشد التحيات بصوت مسموع، تردد خلفه مجموعته أو ترافقه. وحيث أن معظمهم لا يفقه العربية، تكون النتيجة مضحكة جدا. وهناك قصص كثيرة تروى عن إغفال المعنى، لكن لتقدير فكاهة الموقف لا بد من فهم اللغة العربية. توجهنا نحو مقام الرسول، حيث كان يؤدي صلاته. لقد بني عليه قوس وزينت جوانبه الشموع. أُمرنا أن نؤدي صلاة تحية المسجد في هذا الموقع. وخلال صلاتنا تلقينا بعضا من التعليقات من قبل مجموعة من المطوفين حولنا. فقد تعرفوا على عبدالواحد أنه بغدادي، لكنهم فشلوا في تعريفي. قال بعضهم إني عجمي، وقال بعضهم الآخر إني من البصرة. عند انتهائنا من الصلاة سئلنا من نكون، قلت إني من الدراويش سائح في أرض الله الواسعة.