رغم مرور نحو ثلاث سنوات على الثورة السودانية، التي أطاحت نظام الرئيس عمر البشير، والتي رفع السودانيون خلالها سقف أحلامهم بتحسن الظروف المعيشية، إلا أن تلك الأحلام تحولت إلى كوابيس في ظل "المشاكسات السياسية" التي تتجاهل تفاقم الأوضاع الاقتصادية وضيق العيش الذي يطارد ملايين المواطنين، وسط غياب خطط حقيقية لإنقاذ البلاد من فوضى وشيكة.
ويزداد حال المواطن السوداني سوءاً، إذ يعاني من غلاء غير مسبوق وتردٍّ في الخدمات، حيث وصل التضخم لأول مرة في تاريخ البلد إلى أكثر من 400%، بينما لم يكن يتجاوز 44% مطلع عام 2019.
تفاقم الأوضاع الاقتصادية
ورغم رفع الثورة شعارات حل الأزمات المعيشية التي تجسدت في معاناة المواطن من صفوف الخبز والوقود والنقود علاوة على تراجع قيمة العملة المحلية وزيادة عجز الموازنة العامة للدولة وعجز الميزان التجاري، إلا أن ذلك لم يتحقق بل وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية في ظل تخبط حكومي في القرارات وتأزم المشهد السياسي، حيث يعيش البلد على وقع اضطرابات ومظاهرات، للتنديد بالاتفاق السياسي بين رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك والمطالبة بحكم مدني.
وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقع البرهان وحمدوك، اتفاقا سياسيا تضمن عودة الأخير لمنصبه، وتشكيل حكومة كفاءات (غير حزبية)، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن قوى سياسية ومدنية تعتبر الاتفاق "محاولة لشرعنة الانقلاب"، وتتعهد بمواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق "الحكم المدني الكامل" خلال الفترة الانتقالية التي تشهد صراعاً مستمراً بين "المتشاكسين" من القوى العسكرية والمدنية، وفق وصف محللين.
ويقول اقتصاديون إن الوضع الاقتصادي والمعيشي، ازداد قتامة في السنوات الأخيرة رغم المتغيرات التي حدثت في الساحة السودانية برفع اسم البلد من قائمة الدول الراعية للإرهاب واندماجه في المجتمع الدولي بتخفيف العقوبات المفروضة عليه سابقاً.
ويقول الخبير الاقتصادي توفيق إبراهيم لـ"العربي الجديد" إن هناك تقاطعات داخلية صرفت النظر عن كل إنجازات الثورة، مشيرا إلى أن الصراع على السلطة بين المكونات المختلفة في البلاد، دفع البلاد إلى مشهد مأزوم، كما أن إجراءات "لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال" تسببت في تحجيم الاستثمارات وتهريب الكثير من رجال الأعمال الأموال إلى خارج البلاد، ما أدى إلى زيادة أزمات البلاد الاقتصادية.
ويضيف إبراهيم أن "سيطرة العسكر على موارد الدولة واستثمارات كثيرة كانت من معوقات توسع الأنشطة الاقتصادية"، مشيرا إلى أن التراجع الكبير الذي حدث للعملة السودانية أثر أيضا بصورة مباشرة على الأوضاع المحلية وارتفعت الأسعار وحدث نقص في العديد من السلع وازداد الفقر وانتشرت البطالة، ما ادى إلى فتح بؤر لمشاكل جديدة في العديد من ولايات السودان.
ويتابع :" للأسف هناك من يسعون إلى جعل الأوضاع تسير نحو الأسوأ، ولكن كان من الأجدى أن تقوم الحكومة الانتقالية بمسؤولياتها تجاه المواطن في توفير سبل كسب العيش الكريم ولكنها لم تفعل ذلك، بل علقت كل فشلها على النظام السابق، رغم رفع العقوبات وإزالة اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والكثيرون الآن يرون أن فترة العقوبات كانت أفضل من الفترة الحالية، حيث لا ارتفاعات في الأسعار مثلما هو الحال الآن ولا انهيار لقيمة الجنيه وزيادة في أسعار الوقود التي بدروها أثرت على كل مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية".
وصفة صندوق النقد
قتامة المشهد الاقتصادي تشير إلى استمرار الأزمة بصورة كبيرة، فاقت توقعات المواطن، حيث تضاعفت جميع الأسعار بعد اتباع وصفة صندوق النقد الدولي وتحرير أسعار الدولار ليقفز إلى أكثر من 450 جنيها مقابل 45 جنيها، لتقفز بعدها أسعار السلع والخدمات وسط توقعات بمزيد من الارتفاع في ظل مضاربات واسعة وعدم وجود رقابة حكومية على الأسواق.
وفي فبراير/شباط 2021، أعلن البنك المركزي "تعويماً جزئياً" للجنيه أمام العملات الأجنبية، بهدف الوصول إلى استقرار سعر الصرف وتحويل الموارد من الأسواق الموازية إلى الأسواق الرسمية.
ويقول الخبير الاقتصادي هيثم محمد فتحي، إنه "بعد مرور ثلاث سنوات من عمر ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 لم تحقق حكومة الفترة الانتقالية أيا من طموحات الشعب السوداني، خاصه أن أهم أسباب اندلاع الثورة هو الضائقة المعيشية وارتفاع الأسعار، بينما الآن تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وكل المؤشرات تدل على ذلك من ارتفاع لأسعار السلع والتضخم وزيادة نسبة الفقر والبطالة وانهيار قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية".
ويضيف فتحي: "أبرز أخطاء الحكومة الانتقالية يكمن في تنفيذ البرنامج الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وهذا البرنامج ليس من مهام حكومة الفترة الانتقالية، وإنما هو من مهام الحكومة المنتخبة، ولذلك تجاوزت حكومة الفترة الانتقالية مهامها الأساسية والمتمثلة في تسيير الأعمال وإجراء الانتخابات وتسليم السلطة لحكومة منتخبة".
ويؤكد أن "برنامج الإصلاح الاقتصادي، أدى إلى نتائج سلبية كثيرة من بينها زيادة معدل التضخم والفقر والبطالة ووجود صعوبة في الحصول على المستلزمات الضرورية نتيجة لارتفاع أسعار السلع والخدمات، كما أن رفع الدعم عن المحروقات زاد الأعباء على المواطنين، برفع تكلفة الإنتاج ونقل البضائع والمواصلات".
تقسيم الوظائف وفق محاصصات
ويقول إن "حكومة الفترة الانتقالية فشلت في ملف الحكم الفدرالي والخدمة المدنية وتقليص الوظائف، فحدثت زيادة في عدد الوظائف وتم تقسيمها وفق محاصصات، بجانب أن الإجراءات التي اتخذتها لجنة إزالة التمكين بتشريد العاملين بدون منهجية، أضرت بمجالات العمل في أجهزة الدولة وزادت البطالة وأدت إلى توقف مؤسسات اقتصادية كانت تساهم في الاقتصاد الوطني".
وجاءت تداعيات الخطوة الانقلابية الأخيرة للجيش، لتزيد الوضع تأزماً، إذ شكا وزير المالية والاقتصاد جبريل إبراهيم من أن موازنة العام الحالي 2022 تواجه تحديات كبيرة بعد أن أوقف المانحون دعما يقدر بحوالي 600 مليون دولار، ولوحت الوزارة بإنهاء عهد دعم الخبز والكهرباء في وقت يشهد المواطن صعوبات معيشية متفاقمة بالأساس.
وكانت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي أعدت قبل الانقلاب مسودة موازنة 2022 وقالت إنها تتميز عن غيرها بتوجيه الموارد المالية بشكل أمثل، بما يضمن خفض نسب الفقر وزيادة الدخل وتوجيه القطاعات الاقتصادية والإنتاجية لانتهاج إدارة فاعلة لتحقيق التوازن المالي وتعزيز التحول الاقتصادي من أجل تحقيق نمو شامل.
وأضحى شبح المجاعة يلوح في السودان، وسط أزمة اقتصادية قاسية تترافق مع ضعف الدعم الدولي وتعقيدات المشهد السياسي المحلي.
وحذر مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)، في تقرير في ديسمبر/كانون الأول الماضي، من أن 14.3 مليون سوداني يمثلون نحو 30% من سكان البلاد، سيحتاجون إلى مساعدات غذائية خلال عام 2022، بزيادة 800 ألف شخص عن عام 2021، وهو "أعلى رقم خلال عقد من الزمن"، وفق المكتب.
وشهد السودان سلسلة من المجاعات التي لا تزال راسخة في أذهان المواطنين. إذ واجهت البلاد خلال عامي 1984 و1985 واحدة من أسوأ المجاعات في العالم، التي نجمت عن مزيج من الحرب الأهلية والجفاف، ونتجت منها خسائر بشرية ضخمة، إذ لقي ما يُقدر بنحو ثمانية ملايين وأربعمائة ألف شخص مصرعهم، وتأثرت الثروة الحيوانية في العديد من الولايات.
ثم واجه السودانيون مجاعة أخرى في عام 1998، بعد تعرض البلاد لموجة جفاف في مناطق تقع ضمن نطاق المناخ المداري المعروف بقلة الأمطار وتذبذبها.
وتشير البيانات الحكومية إلى أن 65% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، في الوقت الذي يؤكد خبراء اقتصاد أن النسبة الحقيقية أعلى من التقديرات الرسمية خاصة في ظل وضع الأمن الغذائي السيئ والمرجح أن يزداد سوءاً خلال الفترة المقبلة.