تجنب النظام المالي العالمي صدمة قوية يوم الخميس، بعد الإعلان عن أزمة مالية لدى بنك "كريدي سويس"، وهو المقرض السابع عشر في أوروبا من حيث الأصول، حيث سارع البنك المركزي السويسري لإنقاذه بقرض ضخم بقيمة 50 مليار فرنك سويسري (54 مليار دولار) لتعزيز موارده المالية ومعالجة أزمة السيولة لديه، مع تأكيد البنك المركزي على سلامة المركز المالي للبنك المتعثر. ولتوفير مزيد من السيولة قال كريدي سويس إنه سيعيد شراء نحو 3 مليارات دولار من سنداته، التي تراجعت قيمتها بفعل مخاوف الأسواق حيال "الصحة المالية" للمقرض.
وتلقت الأسواق العالمية ضربة موجعة للمرة الثانية في أسبوع واحد. موجة الذعر التي انطلقت مع إفلاس بنك "سيليكون فالي" الأميركي (SVB) لحقتها توترات جديدة تتعلق بالأزمة التي يمر بها بنك كريدي سويس الأوروبي البالغ من العمر 167 عامًا، إذ اتسعت الخميس خسائر الأسواق الآسيوية مع هبوط مؤشر هانغ سنغ في الصين بنسبة 2% تقريباً، وتراجع مؤشر نيكاي 225 الياباني بنسبة 1% تقريباً، أما البورصات الأوروبية التي عاشت الصدمة الأربعاء، عادت للانتعاش الخميس عند بدء التداولات غداة حصول المصرف على مساعدة كبيرة من البنك المركزي السويسري.
وامتدت آثار أزمة كريدي سويس إلى عدد من الدول العربية، حيث إن لائحة كبار المستثمرين في البنك تضم كلاً من البنك الأهلي السعودي (يمتلك حصة 9.88%)، ومجموعة العليان السعودية (3.2%)، وجهاز قطر للاستثمار (6.8%). وذكرت وكالة "بلومبيرغ" أن هذه المؤسسات الثلاث سجلت خسائر بقيمة تتعدى 8 مليارات دولار يوم الأربعاء.
وقال رئيس مجلس إدارة البنك الوطني السعودي عمار الخضيري على هامش مؤتمر في العاصمة السعودية الرياض يوم الأربعاء "لا نستطيع أن نشتري المزيد من أسهم كريدي سويس لأننا نتجاوز 10%. إنها مسألة تنظيمية".
ويُصنف كريدي سويس بين أكبر مديري الثروات في العالم، وهو يشكل واحداً من 30 بنكًا عالميًا مهمًا على مستوى النظام الدولي، والتي قد يتسبب فشلها في حدوث تموجات في النظام المالي بأكمله.
ولدى البنك السويسري ما يزيد قليلاً عن 50 ألف موظف و 1.6 تريليون فرنك سويسري في الأصول الخاضعة للإدارة في نهاية عام 2021، مع أكثر من 150 مكتبًا في حوالي 50 دولة، ويعد كريدي سويس البنك الخاص لعدد كبير من رواد الأعمال والأثرياء والشركات ورؤساء دول وحكومات.
وتراجعت أسهم ثاني أكبر بنك في سويسرا بما يصل إلى 30 في المائة في التعاملات يوم الأربعاء، إلى مستوى قياسي منخفض بلغ حوالي 1.56 فرنك سويسري للسهم، مما أدى إلى عمليات بيع واسعة النطاق في الأسهم الأوروبية والأميركية. وتعافت أسهم كريدي سويس قليلاً في وقت لاحق من الخميس، بعد الإعلان عن القرض من البنك المركزي السويسري.
ويأتي الذعر بشأن كريدي سويس بعد انهيار مقرض العملات الرقمية سيلفرغايت يوم الخميس الماضي، وبنك سيليكون فالي يوم الجمعة، وسيغنتشير في نيويورك يوم الأحد. ومع ذلك، فإن مشاكل البنك السويسري هي أيضاً فريدة نسبياً وليست جديدة، مع سلسلة من الخسائر المالية الكبيرة والفضائح التي أثارت قلق المستثمرين وغذت نزوح العملاء مؤخراً.
وبحسب "الغارديان" اتصل البنك المركزي الأوروبي بالمقرضين للاستفسار عن التعرض المالي لبنك كريدي سويس، بينما قالت وزارة الخزانة الأميركية إنها تراقب الوضع عن كثب. وفي محاولة لتهدئة الأعصاب، قال الرئيس التنفيذي لبنك كريدي سويس، أولريش كورنر، إن قاعدة السيولة للبنك ظلت قوية وكانت أعلى بكثير من جميع المتطلبات التنظيمية، وفق موقع "سويس إنفو".
ويمر البنك في طور خطة إعادة هيكلة كبرى، تهدف إلى وقف الخسائر الكبيرة، التي تضخمت إلى 7.3 مليارات فرنك سويسري (8 مليارات دولار) في عام 2022، وإحياء العمليات التي أعاقتها فضائح متعددة على مدى العقد الماضي تنطوي على سوء سلوك مزعوم، وخرق للعقوبات وغسل الأموال والتهرب الضريبي، وفق تقرير لـ"الغارديان".
تشرح الصحيفة البريطانية أنه في السنوات الثلاث الماضية وحدها، تمت محاسبة بنك كريدي سويس في قضية توظيف جواسيس محترفين لتعقب المديرين التنفيذيين المغادرين. اعترف البنك بالاحتيال على المستثمرين كجزء من فضيحة قرض "سندات التونة" في موزمبيق، مما أدى إلى غرامة تزيد عن 350 مليون جنيه إسترليني؛ وتورط في انهيار المقرض Greensill Capital وصندوق التحوط الأميركي Archegos Capital في عام 2021.
كما تعرض البنك لانتقادات بعد الكشف عن تحقيقات استقصائية أظهرت أنه خدم عملاء متورطين في التعذيب وتجارة المخدرات وغسيل الأموال والفساد وغيرها من الجرائم الخطيرة على مدى عقود.
في نفس العام، وجد المدعون السويسريون أن البنك مذنب بالمساعدة في غسل الأموال نيابة عن المافيا البلغارية، على الرغم من أن البنك نفى ارتكاب أي مخالفات ويعتزم الاستئناف ضد الحكم. لكن المشاكل لم تختف بعد. وبدأت عمليات بيع أسهم كريدي سويس في عام 2021، بسبب الخسائر المرتبطة بانهيار صندوق الاستثمار أركيغوس وغرينسيل كابيتال.
في يناير/ كانون الثاني 2022، استقال أنطونيو هورتا أوسوريو من منصب رئيس مجلس الإدارة لخرقه قواعد كورونا، بعد 8 أشهر فقط من تعيينه لإصلاح البنك المتعثر.
في يوليو/ تموز الماضي، كشف الرئيس التنفيذي الجديد وخبير إعادة الهيكلة أولريش كورنر عن مراجعة استراتيجية، لكنه فشل في كسب المستثمرين. وأدت شائعة حول فشل وشيك للبنك في الخريف من العام الماضي إلى بدء فرار واسع للعملاء.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، اعترف المقرض بوجود "نقاط ضعف مادية" في ضوابطه الداخلية المرتبطة بالتقارير المالية، لكن الرؤساء المطمئنين كانوا يعملون على خطة "لتقوية أطر المخاطر والرقابة".
قالت سوزانا ستريتر، رئيسة المال والأسواق في هارجريفز لانسداون لموقع "سويس إنفو"، إن المشاكل في بنك كريدي سويس تسلط الضوء على "السرعة الخاطفة للانهيار العالمي لبنك وادي السيليكون، الذي هز القطاع المصرفي، ودفع المستثمرين إلى اكتشاف نقاط الضعف في المؤسسات الأخرى". وتابعت "إن حزمة الإنقاذ من البنك المركزي السويسري تثير مخاوف شديدة بشأن اندفاع أكبر على بيع الأسهم والتداعيات على المؤسسات الأخرى في جميع أنحاء العالم المعرضة للمخاطر".
وشرحت أنه "في الوقت الحالي، أعادت هذه الخطوة بعض الاستقرار إلى الأسواق العالمية، لكن لا تزال الأعصاب متوترة، وكان ذلك واضحاً في أسواق آسيا". وقال بنك إنكلترا في بيان إن النظام المصرفي البريطاني ليس في خطر وإنه "لا يزال آمناً وسليماً ويتمتع برأس مال جيد". وقالت صحيفة الغارديان إن الموظفين في البنك مستمرون في مراقبة التطورات في القطاع المالي عن كثب.
وبعد فوضى عام 2008، فرض المنظمون في جميع أنحاء العالم قيوداً أكثر صرامة، خاصة بالنسبة للبنوك التي تعتبر مهمة للنظام المالي العالمي. أدخلت معظم البنوك المركزية والهيئات التنظيمية الوطنية اختبار الإجهاد السنوي للتحقق مما إذا كانت البنوك قادرة على تحمل الصدمات الاقتصادية الشديدة واضطراب السوق، مع الاستمرار في دعم عملائها.
في أسوأ السيناريوهات، يُقصد من البنوك المهمة على مستوى النظام أن يكون لديها رأس مال كافٍ، لضمان قدرتها على الفشل بطريقة منظمة نسبياً. ومع ذلك، فإن هذه الوصايا لم يتم اختبارها بعد من خلال فشل مصرفي حقيقي.
كان عملاء كريدي سويس في المقام الأول العملاء الأثرياء والشركات، يسحبون الأموال من البنك منذ شهور، مما أدى إلى أكثر من 111 مليار فرنك سويسري (99.7 مليار جنيه إسترليني) من التدفقات الخارجة في أواخر العام الماضي. ولم يتضح على الفور يوم الأربعاء ما إذا كانت عمليات سحب العملاء قد تسارعت نتيجة لانخفاض سعر سهمها.
ويشعر بعض المستثمرين بالقلق من الخسائر المحتملة غير المحققة الكامنة في المحافظ الاستثمارية للبنوك الأوروبية الأخرى.
وتصاعدت المخاوف بشأن العدوى في جميع أنحاء القطاع، مع تهاوي أسواق الأسهم في المملكة المتحدة وأوروبا والولايات المتحدة خلال الأيام الماضية.