تبدو أوروبا قلقة من تطور علاقات التجارة والمال بين طهران وموسكو خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد غزو روسيا لأوكرانيا. وترى أوروبا أن التعاون الروسي الإيراني من شأنه أن يطيل أمد الحرب في أوكرانيا ويزيد قدرة إيران على تطوير برنامجها النووي وتقويض النفوذ الغربي في المؤسسات الدولية.
كما أن أوروبا قلقة كذلك من تفعيل "ممر الشمال – الجنوب"، وهو المشروع الذي ناقشه أمين مجلس الأمن القومي الإيراني السابق على شمخاني في إبريل/نيسان الماضي مع المساعد الخاص للرئيس الروسي، إيغور لويتين. وتعود مخاوف أوروبا من مشروع " الشمال ـ الجنوب"، إلى أنه ببساطة يعني عزل أوروبا عن آسيا ويضعف العقوبات الغربية ويمهد لزيادة النفوذ الروسي في المنطقة العربية.
وهذا الممر التجاري الذي يواجه عقبات التمويل يوفر فرصة لروسيا للوصول إلى المياه الدافئة. ومعروف أن روسيا دولة حبيسة تعتمد في وصول تجارتها وأساطيلها إلى المياه الدافئة عبر البحر الأسود ومضيق البوسفور التركي ومضيق تسوشيما الذي يمر قرب كوريا الجنوبية، وهو ممر يمكن أن يغلق في أية لحظة في حال حدوث تطور خطير بالعلاقات الغربية الروسية.
ويقول تقرير بمعهد العلاقات الخارجية الأوروبي، إنه يتعين على الحكومات الأوروبية أن تسعى إلى تهدئة التوتر في علاقاتها مع طهران واستخدام نفوذ الكتلة الاقتصادي لوقف تقدم التعاون الروسي الإيراني.
3 مسارات
ينظر معهد العلاقات الخارجية الأوروبي، إلى منحى العلاقات بين طهران وأوروبا أن يمر في ثلاثة مسارات رئيسية، وهي تطور علاقات التجارة والمصارف والاستثمار الروسي في الطاقة الإيرانية والملف النووي والممر التجاري بين "الشمال والجنوب".
ويدعو "معهد العلاقات الخارجية الأوروبي" الكتلة الأوروبية إلى بذل جهود لإقناع إيران بالحد من عمليات نقل الأسلحة إلى روسيا، والحد من أنشطتها النووية، مقابل أن تخفف الدول الغربية من العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الطاقة الإيرانية.
على الصعيد الأوروبي، تدهورت علاقات إيران مع الحكومات الأوروبية بشكل عام، خاصة مع الترويكا المكونة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وتحولت إلى عداء مفتوح خلال العام الماضي في عهد الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي.
وترى أوروبا أن تطور علاقات موسكو وطهران قد يمكن روسيا من إطالة أمد الحرب وزيادة الدمار في أوكرانيا. كما أنها تزيد من نفوذ روسيا وإيران في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي تغيير ميزان القوى في المنطقة العربية من خلال الدعم الروسي لطموحات إيران التوسعية وبالتالي تهديد المصالح الاقتصادية لأوروبا في الدول الخليجية.
على الصعيد التجاري، يؤكد المسؤولون الروس أنه في عام 2022 زادت التجارة الثنائية لبلادهم مع إيران بنسبة 20%، مقارنة بالعام السابق 2021، لتصل إلى 5 مليارات دولار. وتظهر بيانات صندوق النقد الدولي أن إجمالي التجارة خلال هذه الفترة بلغ 2. 4 مليارات دولار، لكن هذا الإجمالي تغيب عنه صفقات مبادلة النفط والتجارة العسكرية، التي لم تكشف روسيا وإيران عن تفاصيلها.
ووفقاً لمسؤولين إيرانيين، أصبحت روسيا أكبر مستثمر أجنبي في إيران، حيث استثمرت 2.76 مليار دولار في السنة المالية الإيرانية الأخيرة (مارس/ آذار 2022- مارس 2023). ويقول أحد رجال الأعمال داخل إيران إن "إيران أصبحت سوقًا للروس، لكل شيء بدءًاً من الإطارات وحتى الطائرات بدون طيار".
ويتألف الجزء الأكبر من التجارة الروسية الإيرانية تقليديًا من المواد الغذائية المعفاة من العقوبات الأميركية. وفي أعقاب العقوبات الغربية الجديدة على روسيا، وقعت موسكو وطهران عدة اتفاقيات جديدة ليقدم كل منهما للآخر البدائل التي تشتد الحاجة إليها للواردات الغربية. كما تمد إيران روسيا بقطع غيار السيارات وتوربينات الغاز وخدمة الطائرات الروسية.
وحسب البيانات الرسمية الصادرة من طهران تستهدف إيران تعزيز التجارة الثنائية السنوية مع روسيا إلى 40 مليار دولار.
في الشأن المصرفي، في يناير/كانون الثاني، ربطت روسيا وإيران بنوكهما بشكل مباشر من خلال اتفاقية بين البنوك لتجاوز نظام سويفت الذي بات محظراً عليهما. وكانت روسيا قد أتاحت في السابق أيضًا البرنامج الخاص للأمن الغذائي لإيران.
وفي أغسطس/آب 2022، أعلن المسؤولون الإيرانيون عن إنشاء بورصة للريال والروبل لخفض قيمة التجارة بالدولار مع روسيا. وأعقب ذلك في ديسمبر/كانون الأول 2022، تحدى ثاني أكبر بنك روسي العقوبات الأميركية من خلال إصدار مدفوعات مقومة بالريال للبنوك الإيرانية.
كما أعلن المسؤولون الإيرانيون في مايو/أيار الماضي أن بنك " في تي بي" الروسي افتتح أول مكتب تمثيلي له في طهران، وفي مارس/آذار الماضي توصل البلدان إلى اتفاق لتشغيل خدمات بطاقات الائتمان الروسية داخل إيران. وبالتالي فإن أوروبا قلقة من تجاوز البلدان للعقوبات الغربية عبر هذا التعاون، خاصة وأن إيران انضمت عملياً إلى مجموعة "بريكس" وستفعل عضويتها في بداية العام المقبل 2024.
على صعيد مقايضة العملات، حسنت روسيا وإيران علاقاتهما المصرفية الثنائية، لكنهما لم تنجحا حتى الآن في إنشاء نموذج للاستخدام على نطاق واسع. وحسب دراسة بمعهد العلاقات الخارجية الأوروبي، فإن الفشل في ذلك يعود إلى نقص السيولة بالروبل والريال في أسواق الصرف الأجنبي الخاصة بكل منهما.
ويمكن للبنوك في إيران وروسيا دعم الاستثمار في المشاريع الصغيرة مثل الموانئ والسكك الحديدية. ولكن بالنسبة للمشاريع الاستثمارية الكبرى، ربما تحتاج روسيا وإيران إلى مشاركة البنوك الكبرى من الصين ودول أخرى.
هاجس العزلة عن آسيا
على صعيد الممرات التجارية بين آسيا وروسيا، يبدو أن موسكو في أعقاب الغزو الأوكراني وما تلاه من عقوبات، باتت مهتمة بدرجة رئيسية في استغلال الموقع الجغرافي الاستراتيجي لإيران. ويقول الخبير بمجلس العلاقات الخارجية الروسي نيكيتا سأمجن، في تحليل إن هذا الممر يواجه أزمة التمويل.
ويرى محللون آخرون أن توسيع بريكس الذي ضم دولاً لديها صناديق سيادية وفوائض دولاريه وإيران ربما يدعم رأسمال بنك التنمية الذي أسسته بريكس في شنغهاي، ويمكن مستقبلاً من تمويل هذا المشروع الذي يحتاج إلى استثمارات تزيد عن 26 مليار دولار.
وحسب الخبير، بدأت إيران التي تعاني من ضائقة مالية في مغازلة الاستثمار الأجنبي. وفي عام 2017، وافقت أذربيجان على إقراضها 500 مليون يورو، ولكنها تراجعت بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على طهران.
ويقول من الواضح إن إيران تفتقر إلى الأموال والموارد التقنية، كما أن روسيا تعاني من نفقات الحرب في أوكرانيا. ويشير الخبير الروسي إلى أن هنالك شكوكاً في العائد الذي سيتحقق من خط السكة الحديد "رشت-أستارا" الذي يعد جزءاً من ممر "الشمال الجنوب".
وسعت منذ فترة طويلة إلى جذب الاستثمار في طرق العبور التي تربط روسيا بآسيا. يمكن لبحر قزوين وممر العبور الدولي بين الشمال والجنوب توفير وصلات الطرق والسكك الحديدية والبحر على طول الطريق من شمال روسيا إلى الهند. ومن الممكن أن تلعب هذه الطرق دوراً رئيسياً في مساعدة روسيا على زيادة صادراتها من المنتجات الزراعية والبتروكيميائية والآلات والأسمدة إلى الأسواق الآسيوية الشاسعة.
الممر الشمالي الجنوبي الذي يربط روسيا بالهند والسوق الآسيوية عبر البر والبحر والسكك الحديدية، يعني تلقائياً عزل أوروبا عن آسيا. وتلعب إيران دورًا حاسمًا في ربط هذا الطريق، الذي يوفر لكل من إيران وروسيا خيارات للتنويع بعيدًا عن الأسواق الأوروبية بعد العقوبات.
وترى الحكومة الروسية الآن أنه بات ضرورياً لحل المشاكل اللوجستية التي نتجت من العقوبات الغربية الجديدة وما ترتب على ذلك من تحول النشاط الاقتصادي إلى الصين، وجنوب شرق آسيا، والخليج العربي.